لابد للإنسان أن يتبين حقائق الوجود وسر الحياة، والسعى لهذا البيان هو ضرورة فطرية وعقلية وحسية، وهذا البيان علامة الرشد فى الإنسان، الذى ما تميز بشىء عن سائر الحيوانات إلا بعقله، ويوم أن يترك مهمة البحث عن حقيقة الوجود وعن رسالته فيه، ويقصر حياته على الأكل والمتاع يكون أقل من الأنعام التى ليس لها عقل، بل يصير بعقله شر الدواب التى تدب على الأرض ويفقد أهلية التصرف كسيد فى هذا الوجود، قال تعالى فى سورة الفرقان آية 44: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا»، ويعيش أيضاً ميتا وإن ظهرت عليه أعراض الحياة لأنه لا حياة حقيقية إلا بهذه المعرفة. وها هو أوغست كونت الفليسوف الاجتماعى الفرنسى وصاحب مذهب الوضعية المنطقية يحلل تاريخ الفكر البشرى فيضعه فى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وتبدأ فى العصر الوسيط ويسميها المرحلة اللاهوتية التى تعلل الأشياء والظواهر بكائنات وقوى غيبية وتجعل الدين هو مصدر المعرفة.
المرحلة الثانية: وكانت فى عصر النهضة ويسميها المرحلة الميتافيزيقية حيث كان العقل والإدراك المجرد هو مصدر المعرفة.
المرحلة الثالثة: التى ساد فيها الحس كمصدر للمعرفة ويسميها المرحلة الوضعية التى يتوقف فيها الفكر عن تعليل الظواهر بالرجوع إلى المبادئ الأولى ويكتفى باكتشاف قوانين علاقات الأشياء عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية، واعتبر العلم التجريبى هو المصدر الوحيد لمعرفة حقائق الكون ولا إيمان إلا بما يكشفه العلم، وبهذا تسود الطبيعة على العقل والدين معاً.
والحقيقة أننا إذا استوعبنا حصيلة الإنسانية فى معرفة حقيقة الوجود أدركنا: أن الإنسان حين يزداد علمه يحس إحساساً عميقاً بقصوره، فهو يرى أنه لم يعلم من الحقيقة سوى قشرة ظاهرة منها، وأنه لم يدرك شيئاً عن سر الوجود ولا عن مداه ولا عن غايته، فنظرة الإنسان إلى العالم الخارجى محدودة بحواسه، ثم إنه ليس هناك شىء فى هذا الوجود فكراً كان أو مادة لا يؤثر فى غيره ولا يتأثر به، وعلينا إذا أردنا الوصول إلى نتيجة سليمة عن حقيقة الأشياء أن ندرس هذه الآثار ونتتبعها حتى تكون معلوماتنا دقيقة سواء كانت هذه الآثار تتصل بالعلاقات المكانية فى هذا الوجود الممتد أو بالعلاقات الزمانية فى الماضى والمستقبل.
يقول ليبون: «قد يمكن لا ريب لعقل أسمى من عقلنا أن يتصور الطاقة بغير مادة.. لكن مثل هذا التصور فى غير مقدورنا فنحن لا نستطيع أن نفهم الأشياء إلا بوضعها فى الإطار المشترك لأفكارنا، ولما كانت ماهية الطاقة مجهولة فنحن مضطرون إلى صوغها صياغة أدبية حتى نفكر فيها، فنحن كما قال برجسون: ماديون بالطبع فقد ألفنا التعامل مع المادة والأمور الميكانيكية، وإذا لم ننصرف عنها كى ننظر إلى أنفسنا فإننا نتصور كل شىء كآلة مادية»، الإنسان ينظر إلى الكون الهائل فلا يستطيع أن يرى تفاهة الأرض التى يسير عليها إذا نسبها إليه، فأين هى من الشمس؟ وأين الشمس من النجوم الهائلة التى تحتويها المجرة التى يعيش فيها؟ ولا يمكن حصر عدد المجرات الموجودة فى الكون، ومن أقوال الماركسية وهم من أكثر الناس مادية: «إن المسافات فى العالم أعظم كثيراً من المسافات التى تعودنا عليها فى الأرض، إن المجاهر الحديثة قد مكنتنا من اكتشاف النظام النجومى الذى يصل ضوءه إلينا فى مئات الملايين من السنين، رغم أن سرعة الضوء تصل إلى 300 ألف كم/ ثانية، ورغم أن هذه المعلومات محدودة فإنها تعطينا صورة صحيحة عن اتساع العالم الذى هو لا نهائى، إن لا نهائيته تتعدى حدود الخيال ولا يمكن وصفه والتعبير عنه بالعلم، حتى الخيال البشرى محدود، والأرقام الخاصة بعمر الأرض وتطورها تذهل الخيال، إن الإنسان كما نعرفه اليوم ظهر منذ 50 ألفا إلى 70 ألف سنة، وأول أشكال النبات والحياة الحيوانية ظهر منذ أكثر من ألف مليون سنة والأرض نفسها منذ عدة آلاف الملايين من السنين، وهذا هو العمر الزمنى لتاريخ الأرض، ولكن لا هذه الأرقام ولا أكبر منها تستطيع أن تعطينا أى دلالة حقيقية عن لا نهائية الطبيعة لأن هذه اللانهائية يتمثل وجودها اللانهائى فى الزمان.
هذا فيما يختص بالعلم التجريبى ويزداد الأمر تعقيداً فى البحوث الاجتماعية، حيث إن طبيعة الموضوعات التى تعالجها العلوم الإنسانية كغاية السلوك الإنسانى وماهية الخير وطبيعة الواجب ونحو ذلك لا تحتمل مناهج التجربة، هذا بالإضافة إلى أن الإرادة البشرية تتدخل فى سير الظواهر الإنسانية، وتتكفل بتغيير مجراها تغييراً يجعل من العسير إخضاعها لقانون علمى ثابت ويتعذر مع هذا إجراء التجارب فى الموضوعات الإنسانية، إلا فى نطاق ضيق محدود لا يبرر جعل المنهج التجريبى أساساً لدراستها، كما أن موضوعات العلوم الإنسانية متأثرة لا محالة بعقيدة الباحث وثقافته وتقاليد وطنه ونحوها من عوامل تكوينه، وكذلك إن الظواهر الإنسانية خلقية أو نفسية أو اجتماعية أو غيرها تستثيرها وتتدخل فى توجيهها عوامل كثيرة متشابكة يرتد بعضها إلى حرية الفرد وخبراته الثقافية والاجتماعية بوجه عام، ويرجع بعضها إلى البيئة التى تكتنفه وتؤثر فى توجيهه، وهذه العوامل من التداخل والتشابك بحيث يصعب إن لم يتعذر حصرها وتحديد نصيب كل منها فى الظاهرة التى ندرسها، إن العلم فشل فشلاً ذريعاً حين تطلع إلى تفسير الوجود والحياة أصلها وغايتها فانطلق الإنسان فى حيرة وشقاء يعيث فى الأرض يقول البروفيسور أ. ى. ماندير: «إن الحقائق التى نعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة Perceived Facts بيد أن الحقائق التى توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر فى الحقائق المحسوسة، فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا فى هذا السبيل هى الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه بالحقائق المستنبطة Inferred Facts والأهم هنا أن نفهم أن لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو فى التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائماً هى الحقيقة، سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط».
وبهذا لا ينبغى القول بأن الدين هو «الإيمان بالغيب» وبأن العلم هو الإيمان «بالملاحظة العلمية»، فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب، غير أن دائرة الدين الحقيقية هى دائرة «تعيين حقائق الأمور» نهائياً وأصلياً، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية، وهذه نتيجة منطقية لمحدودية القدرة على المعرفة عند الإنسان، فمثلاً الإنسان قد لا يرى من هذه الأشياء أمامه إلا ما يعكسه مدى من الأشعة لو طالت موجتها عنه أو قصرت لم ير شيئاً، وكذلك لا يسمع إلا مدى من الموجات الصوتية لو زادت أو قلت عنه لم يسمع شيئاً وفى كثير من الأشياء كالإلكترون لا يراها وإنما يؤمن بها بآثارها كالكهرباء، فكيف يتسنى له عملياً أن ينكر الغيب؟ إن هذا الإنكار هو إهدار للعلم وإهدار للعقل الإنسانى، والفكر الراشد يؤمن يقيناً اليوم أنه ما أوتى من العلم إلا قليلاً، وأنه لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأن الغيب أمامه لا يستطيع أن يحيط بإدراكه ولكنه يحاول، والعقلية العلمية إذن هى التى تؤمن بالغيب ولا يمكن للعلم أن يكون حقاً إلا إذا بدأ من نقطة الإيمان بالغيب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة