كان المشهد فى تونس مؤثرا، عشرات الآلاف يحتفلون بإتمام الانتخابات التشريعية ويستعدون لإجراء الانتخابات الرئاسية، يهتفون بأرواحهم ويغنون بكامل حمولتهم الوجدانية، يترنمون بترنيمة النضال والانتصار المبهجة، يصدحون بكلمات أحمد فؤاد نجم على أنغام «الشيخ إمام»، فيمنحون تلك اللحظة الوطنية التونسية الخالصة بعدا مفارقا، ويؤججون فى النفس شجونا على حال مصر الآن وقد غرقنا فى آلامنا وأحزاننا ودمائنا وتفاهة إعلامنا.
«وعرفنا مين سبب جراحنا.. وعرفنا روحنا والتقينا.. عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا.. نسلك طريق مالهش راجع.. والنصر قريب من عنينا.. النصر أقرب من إدينا».
هكذا قال «أحمد فؤاد نجم»، وهكذا غنى شعب تونس المبهر دائما، يغنون لوحدة الشعب التونسى المخلص بما فيه من «عمال وفلاحين وطلبة» لم يفرقوا بين عامل وآخر وفقا لديانته، ولم يفرقوا بين طالب وآخر وفقا لمعتقده الفكرى، ولم يفرقوا بين فلاح وآخر وفقا لحسبه أو نسبه، يلتمسون أعشار الفرص ليلتفوا حول علم واحد وهتاف واحد وغاية واحدة، لكن وبكل أسف فقد استعدى هذا المشهد الفياض ما نمر به الآن من اضطرابات اجتماعية يقودها إعلام «رخيص» لا يتقن شيئا بقدر إتقانه للضرب تحت الحزام، ولا يهتم إلا بشىء قدر اهتمامه بالنصف الأسفل من الإنسان.
لا يفتح أحد فمه إلا ويجد أرباجيه إعلاميا من التخوين والتشكيك والتشويه يقتحم حياته ويشكك فى نواياه ويزعزع ثقة الناس فيه، شاشاتنا وصحفنا عامرة بكل أنواع الشتائم بداية من سب الدين والاتهام بالعمالة وحتى الاتهام بالشذوذ الجنسى بالشكل المضمر منه والمعلن، عشرات البرامج ومئات المقالات والأقلام جندت نفسها جيشا جبارا لمحاربة أى صوت مختلف أو مخالف أو حتى مؤيد برشد، وليس أدل على هذا من تلك الهجمة الإعلامية الشرسة التى تعرض لها الفنان خالد أبوالنجا لمجرد أنه قال كلاما يكاد يكون تكرارا لما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى، حينما قال لو لم يستطع السيسى أن يحقق طموحات الناس فستهتف الناس «ارحل»، وهى الكلمة التى قالها الرئيس بنفسه على أى مسؤول حكومى يفشل فى تحقيق المطلوب منه.
تنطلق أرباجيهات الإعلام الرخيص نحو الجميع، لا تفرق بين العدو والصديق، ولا تفرق حتى بين الصديق والصديق، فمعروف أن رجل الأعمال الشهير «نجيب ساويرس» هو أحد أهم داعمى ثورة 30 يونيو، دعمها منذ بدايتها وحتى قبل بدايتها، معرضا مصالحه واستثماراته وحياته للخطر الداهم، كانت المظاهرات الإخوانية تنطلق ضده بلا هوادة منذ اليوم الأول للثورة، حتى وصل الأمر بأنهم كانوا يكتبون على الحوائط والمحلات «هنعدمك يا ساويرس» لكن على ما يبدو أن إعلام الرخص والتدنى يحاول أن يحقق ما فشل فيه الإخوان، وكل هذا بسبب أن رجل الأعمال الشهير قال فى لقائه مع الجريدة الأمريكية «وول ستريت جورنال» إن التعامل الأمنى وحده لا يكفى للحد من خطر الإخوان، وإن عدد المنتمين لجماعة الإخوان يقارب المليونين، ومن غير المعقول إن نسجنهم كلهم أو نعدمهم كلهم، متأسفا على ما يقوله بعض المحسوبين على ثورة 30 يونيو، ومؤكدا أنهم لا يختلفون عن الإخوان فى شىء وأن ما كنا نرفضه أيام الإخوان يمارس الآن، وهو ما يجب ألا نتركه.
لا تعرف على وجه التحديد ماذا يريد هؤلاء من «ساويرس»، وكيف وصل بهم الخبل والمزايدة إلى الحد الذى يتهمون فيه أحد أكبر خصوم الإخوان التاريخيين بخطب ود الجماعة، اتهامات تفارق العقل والمنطق ولا يصدقها إلا مأفون أو مجنون أو مخبول أو معتوه، «نجيب ساويرس يغازل الإخوان؟»
أيعقل هذا؟
ومن يعقله؟
وكيف يعقله؟
من ذا الذى على استعداد لخلع عقله كما نخلع أحذيتنا لنصدق مثل هذا الكلام «المعتوه»، بالنسبة لى من المفهوم أن يردد «معاتيه» الإخوان ومن على شاكلتهم هذا الكلام، فهم على استعداد لقول أى شىء وعمل أى شىء من أجل رفع روحهم المعنوية خاصة قبيل مظاهراتهم المزعومة فى 28 نوفمبر القادم، وليس أدل على هذا من عشرات المقالات والتقارير والتحقيقات التى نشرت فى مواقع الإخوان وأذيعت على قنواتهم، أما أن يردد المحسوبون على ثورة 30 يونيو هذا الكلام فهذا ما لا يصدق.
أراجع ما قاله المهندس نجيب ساويرس الآن وأسأل نفسى ما الخطأ فيما قاله؟ وأتذكر أيضا أن اللواء محمد التهامى رئيس جهاز المخابرات العامة قال كلاما شبيها بهذا الكلام فى الاجتماع الذى عقده مع رؤساء التحرير بعد توليه مسؤولية الجهاز الأمنى الأرفع فى مصر والشرق الأوسط، وأتذكر أيضا أن الرئيس السيسى أكد فى العديد من المقابلات والمؤتمرات أن من المستحيل أن نسجن الإخوان كلهم، وأن باب الوطن مفتوح للجميع، بشرط ألا «تؤذينى ولا أذيك» فهل يخون مرتزقة الإعلام كلا من الرئيس السيسى ورئيس المخابرات أيضا؟
فى الخميس، 13 ديسمبر 2012 وقت حكم الإخوان كتبت مقالا بعنوان ليست شرعية ولا صك عبودية، وكنت أول من يطرح فكرة إجراء انتخابات مبكرة على حكم مرسى، وتشرفت بأن أكون أول مصرى يجهر بخلع «مرسى» علانية فى مقال بعنوان «إنى خلعتك يا مرسى» فى ذات يوم الإعلان الدستورى الشهير، لكنى أكتب اليوم هنا لأضم صوتى إلى صوت المهندس نجيب ساويرس، ولأؤكد على ما أكد عليه من ضرورة البحث عن حلول أخرى لمشكلة «الإخوان» مع الحل الأمنى، لأؤكد أيضا أنه من المستحيل أن نسجن الإخوان والمتعاطفين معهم لأنه ببساطة لا يوجد سجن فى العالم يستوعب كل هذه الأعداد، سواء كان هذا العدد 500 ألف أو 5 ملايين، فالقضاء على الإخوان لا يكون إلا بالقضاء على أفكارهم ومعتقداتهم وسياساتهم ورجعيتهم وظلاميتهم، ولا يكون إلا بتبنى ثورة ثقافية واجتماعية شاملة تصلح ما أفسده الدهر وتقيم ما انبطح من القيم، وتقوم من انعوج من الناس.