إذا قارنا بين الانحراف الخُلقى الفكرى، الانحراف عن الحق لفساد الفكر مع حسن النية، وبين الوقوع فى معصية عابرة نجد أن نهج الرسول هو التشديد فى الأمر الأول، والترفق فى الأمر الثانى ومن أمثلة التشديد فى الأمر الأول:
قول النبى: «أفتان أنت يا معاذ» حين أطال على الناس فى صلاة العشاء، وقوله: «يأيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم بالناس فليوجز» رواه الشيخان، قال الراوى فما رأيت النبى قط أشد غضباً فى موعظة منه يومئذ، وهذا يعنى ضرورة الرفق بالناس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»، قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم، رواه الشيخان، وهذا يعنى ضرورة التحرى والتبين خاصة فى الدماء، وإجراء أحكام الناس على الظاهر.
ومن أمثلة الرفق فى الأمر الثانى:
قول النبى: «وإن زنى وإن سرق.. وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر»، بعد أن قال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»، رواه الشيخان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «رأيت شابا وشابة فخشيت الشيطان عليهما»، رواه الشيخان، انظر قصة إبعاد نظر الفضل بن عباس وكان ينظر إلى امرأة جميلة فى موسم الحج.
إن الانحراف الخُلقى الفكرى أمر خطير لأنه قد يثمر نهجا عاماً يطبع حياة الفرد أو حياة المجتمع، ولأنه عادة لا يلفت الانتباه، حيث يتلبس بمسحة دينية نتيجة النية الحسنة، بينما انحراف السلوك الشخصى أقل خطرا، لأن كل بنى آدم خطاء وخير الخطأين التوابون، ولأن الخطايا المعروفة تعلن عن نفسها فينكرها الفرد ويتوب منها، وإن لم ينكرها الناس، ومن أبرز من كتب فى الانحراف السلوكى الفكرى الذى أصاب المجتمع الدكتور عبدالله دراز والأستاذ مالك بن نبى.
ومن أبرز ظواهر الانحراف الخُلقى الفكرى، وقد أشار إليها مالك بن نبى: هى تلك النظرة الشوهاء الناقصة إلى معنى: «الصلاح»، فالمرء الصالح هو من لا يزنى ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يقامر، وأصبحنا كأننا فى غفلة كاملة عن أخلاق الحياة الفاضلة الراقية، وكأن الفضيلة والرقى هو مجرد اجتناب تلك المحرمات، وكأن ما وراء تلك المحرمات من أخلاق كالجد واليقظة والنظام والتعاون لا تساوى شيئا.. لماذا؟ لأنها أمور يمارسها المؤمن وغير المؤمن والطائع والفاسق إذن ليست هى الأخلاق التى تميز المؤمن والتى ينبغى أن نحرص عليها ونقيس الرجال بها، وإلا تساوى الرجال مؤمنهم وكافرهم طائعهم وفاسقهم، وعندما يتقدم الفاسقون لإتقانهم ممارسة تلك الأخلاق الدنيوية المادية يردد المسلم مبررا فشله بالباطل قول الله من سورة الروم آية 7: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»، ويعزى نفسه قائلا: إذا كان لهم الدنيا فلنا الآخرة، وإذا رأينا الفساق قد صلحت دنياهم وتقدموا وفسدت دنيانا وتخلفنا قلنا: إنما تخلفنا وتأخرنا لأننا وقعنا فى المعاصى وارتكبنا المحرمات ولا سبيل للنهوض والتقدم بغير الرجوع إلى الله وحظيرة الدين أى بتجنب المحرمات، والسبيل القويم هو إغلاق الحانات والملاهى ومنع الرقص وعندها سوف ينصرنا الله لأننا نصرنا دينه وأتممنا شرعه، وكأنا دين الله هو هذه الكبائر الثلاث الزنى والخمر والقمار، وكأن شرع الله هو تحريم الثلاث الموبقات فحسب، وهكذا نظل نفرح بتلك الأخلاق السلبية بل نتلهى بها ونحسب أنفسنا نقاوم الشيطان الوسواس الخناس، وأكثر من ذلك أننا نرفع أقدار الرجال بل نضعهم فى رتبة تشبه التقديس، إذا هم زهدوا هذه الدنيا واعتزلوا الحياة وحفظوا بطونهم وفروجهم من الحرام، ونزيدهم رفعة إذا نقلوا عنهم أنهم لم يكتفوا بتجنب المحرمات بل ترفعوا عن تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع فى الحرام، وهكذا اختلت موازين الأخلاق عندنا فرجحت كفة السلبيات وشالت كل الإيجابيات، وقد يقول قائل: أنت تهون من أمر هذه المحرمات وأرد عليه: إنما أشنع من أمر الغفلة عن دين الله وأفضح من يكاد يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ودين الله كل لا يتجزأ فالله الذى أنزل فى كتابه: « إنما الخمر والميسر.. رجس» هو الذى أنزل قال: «وقل اعملوا»، وقال: «المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف»، وقال: «إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا»، وقال: «وأمرهم شورى بينهم»، وقال: «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»، ورسول الله الذى قال فى سنته: «العين تزنى... والخمر أم الكبائر» هو أيضا الذى قال: «لا يكن أحدكم إمعة... وإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
إن الالتفات إلى النواهى دون الأوامر، قد يسوغه أن النواهى محرمات وعقوبتها شديدة والعذاب يرد دائما للعاصين والمفهوم المتبادر للمعصية هو ارتكاب المحرمات، كما يسوغه النظرة الشائعة للدين على أنه مجموعة قيود ومجموعة محرمات، أى أن مهمة الدين هى التحريم ليكف الناس عن الانطلاق والانفلات والتجاوز، والقرآن يقرر: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..»، والحديث النبوى الشريف: «ألا إن لكل ملك حمى وإن حمى الله فى أرضه محارمه..»، رواه البخارى، فكأنما جاء الدين ليحمى هذا الحمى أى ليقرر ويرسخ خطر هذه المحارم، كما يقرر أن من ترك المحارم فقد نجا.
وهذه النظرة الشائعة هى نظرة ساذجة للمحارم وهى أيضا نظرة منحرفة، فالنظرة الصحيحة العميقة تكشف أن كل أمر أمرنا به وقصرنا فيه أو تخلينا عنه، سنحاسب عليه، أى يصبح التقصير أو التخلى التام عن هذا الفعل الصالح من المحرمات، على أن الدين حين يقرر ويرسخ هذه المحارم «الزنى والخمر والميسر» إنما يقرر الحد الأدنى من الاستقامة الفردية كما يقرر ضوابط أولية لاستقامة الحياة، وطبعاً بناء الأمم له وسائل غير مجرد استقامة الأفراد على الحد الأدنى كما أن عامل بناء الأمم غير مجرد الضوابط الأولية، وإذا تأملنا قول رسول الله: «إذا نهيتكم عن أمر فانتهوا» أى أمرا قاطعاً هو الامتناع والكل تقريباً يستطيع الامتناع، ثم إذا تأملنا قوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» أى حسب القدرة والقدرات تتفاوت من أقصى درجات القوة إلى أقصى درجات الضعف، هنا مجال الخيار والترقى وحديث الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، يعذر الإنسان الضعيف إذا ركن إلى الضعف ويصفه بضعف الإيمان، لكن أن يصبح الضعف سمتاً عاماً للأمة، أى أن تعيش على أضعف الإيمان فهذا يعنى أضعف الأمم، أى فى حياة من الجمود والتأخر والانحطاط، وهكذا نرى كيف يحدث الانحراف فى الدين وفى غير الدين نتيجة عدم شمول النظرة ورؤية الصورة من جميع جوانبها أنه ينبغى أن نأخذ الدين ككل بجميع جوانبه وجميع أوامره ونواهيه، أما أخذ النواهى دون الأوامر فيؤدى إلى اختلال فى كيان الإنسان فضلا على اختلال كيان الأمة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة