هى فى حقيقتها مخدرات.. مخدرات وإن لم يكن لها ملمس أو مذاق أو حتى وزن ومكيال، هى تقوم بنفس وظيفة المخدرات الحقيقية بأنواعها المختلفة، أثارها لا تقل خطورة على النفس من أثار المخدرات العادية على الجسد، وهى تجعل متعاطيها يغادر واقعه الحقيقى الشاق والملىء بالصعاب والتحديات ليعيش واقعا مزينا جميلا كبديل عن حقيقة قد تكون مرَّة ينعزل عن إدراكها ببطء حتى يتجاوزه قطارها، وربما يعبر على جسده ويحوله إلى أشلاء متناثرة دون أن يشعر، إنها المخدرات الفكرية..تلك المخدرات التى تقتل الروح تدريجيا وتجعل المتعاطى أكثر تبلدا وتهون عليه كثيرا من الآلام التى يشعر بها والصدمات التى يتعرض لها، لكنه - كالمخدرات الحقيقية - تبلد مؤقت سرعان ما يزول لتعود الآلام بعد حين، وليفاجأ المتعاطى بمزيد من التعقيد، ربما لم يكن ليوجد لو كان قد انتبه من غفلته التخديرية مبكرا وتعامل مع حقائق الأشياء، واستعد لها وقدَّرها حق قدرها بدلا من التقلب فى نعيم الوعود البراقة والأمانى الزائفة.
فى مقال الأسبوع الماضى الذى تحدثت فيه عن مدمنى اليأس وناشرى التيئيس ومعتنقى الإحباط وقطع الأمل فى الإصلاح، وفى هذه السطور عن النموذج المضاد لهم عن أولئك المخدّرين بالأوهام، الغائبين فى سحائب الأمانى والأحلام. يتكامل هؤلاء - وأحيانا يشتركون - مع من يبيعونهم تلك المخدرات ويتاجرون بهذه الأوهام ويتبرعون بتلك الأحلام الخيالية الوردية، وهذا الصنف الأخير يحرص دوما على الظهور بمظهر العليم ببواطن الأمور، المطلع على الخبايا وما بين السطور، فهو المحلل الجهبذ، والخبير الاستراتيجى المحنك الذى يعلم ما يجهله البسطاء أمثالنا، وعليه فى كل حين أن يبث شيئا عجيبا مبهرا من تلك البواطن أو يلمِّح بسر خطير لم يعلمه غيره، وليظل احتياج المتعاطى المستمر للجرعة التخديرية ولتظل الأفواه فاغرة والأعين متسعة من أثر الانبهار بتلك المخدرات الفكرية والواقعية والسياسية التى يبيعها هذا الجهبذ المتاجر بالأوهام، لا يهم بائعو الوهم أو يفرق معهم مآل تلك المشاعر المتلهفة التى أججوها ولا يلتفتون إلى ما سيحدث لمصداقيهم من صدمات قاسية، حين يزول أثر جرعات المخدر الزائف، وترتطم نفوسهم بأرض الواقع، فلا يجدون الوعود الحالمة قد تحققت عاجلا كما وُعدوا، كل ذلك لا يعنيهم أو يهمهم، المهم فقط أن يثبتوا وجهة نظرهم ويستمروا فى إمداد أتباعهم بما يبقيهم فى أكنافهم.
طبعا لا أتحدث هنا عما ذكرته وأكدت عليه سابقا من اليقين بموعود الله والثقة بنصره والإيمان بتحقق بشريات نبيه، فتلك كلها عقائد راسخة لا تنازل عنها، لكن الفارق بينها وبين مخدرات بائعى الوهم ومشتريه أن الوعود الربانية والبشارات النبوية فى غالب الأمر لم تكن محددة بتوقيت وتعيين، بل كانت فى مجملها وعودا مطلقة مفتوحة الأمد مرتبطة فقط بالعمل والبذل، وعودا تغرس اليقين والأمل وتعلقه بالله الولى النصير لا بتحليلات سمجة متكلفة وتوقعات باطنية أغلبها تخديرى مغرق فى الوهم، ولو أن محبى التبشير قد اكتفوا ببث الأمل من خلال التثبيت بالقرآن وترسيخ وعوده جنبا إلى جنب مع التوجيه للعمل ولأداء التكليفات المقترنة بتلك الوعود دون قطع بالثمرة وموعدها، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، لا مفر فى النهاية من الإقلاع عن تعاطى تلك المخدرات الفكرية والتخلص من حالة الإنكار التى أدمنها البعض، والنظر إلى الواقع بشكل صحيح وصادق لا لييأس أو ليحبط ويقعد باكيا على اللبن المسكوب، فتلك ليست خيارات أصلا كما بينت مرارا، ولكن ليعترف بالخطأ ليصلحه وليضع يديه على مواطن الخلل ليعدلها وليحسن العمل، والتأثير فى إطار المتاح والممكن والواجب الذى أدركه من خلال النظر الواقعى الصادق المعترف وبدون مخدرات.. ولا مخدِّرِين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة