لقد تمكنت أخيرا من السيطرة على هذا الصداع الذى يدق رأسى بقسوته ليس بأى شىء، إلا بشيئين: التأمل والحديث مع «شخص آخر»، بشرط أن نكون منفردين وحدنا بين أربعة جدران وباب مغلق، لا يخلصنى من مطارق الصداع إلا النوم أو الحديث مع «شخص آخر» منفردين فى مودة، فعلى قدر كراهيتى الشديدة للصور الفوتوغرافية على قدر حبى للصور المتتابعة على شاشة السينما فالصورة الفوتوغرافية مجرد محاولة بائسة لتخزين الحياة فى الذاكرة لكن الصورة فى السينما هى الاستعادة شبه الحية لما حدث، حتى ولو كانت على سبيل الخداع والشبه الشاحب، بالإضافة إلى أننى فقدت المقدرة على التذكر لأن مستودع تخزين ذكرياتى قد أصبح منذ مدة بعيدة جزءا منى خارجا عنى، فبالنسبة لى لا شىء يموت ولا يختفى ولا يخفت، فكل الذى حدث قد حدث منذ أكثر من عشر سنوات وما زال يتجدد حدوثه، وما زلت أعيش فيه، وما زال يعيش فى، فما زال أبى يوقن بأن الله قد وهبه الابن الخطأ، وبالرغم من توقفى عن متابعة تناول حبوب «برولكسين» وكذلك حبوب «ميللريل» مع أنى مازلت أستخدم حبوب «ترابلافون» لأن تأثيرها قريب - نوعا ما - من تأثير فص الأفيون، فلم يعد عندى الإصرار على مواصلة العلاج كما كنت قد بدأته منذ عشر سنوات تقريبا عندما شخّص الأطباء حالتى بأنها «إرهاصات فصام»، مع أن أبى لم يصدق كل هذه «الخزعبلات السيكولوجية» حتى عندما قالوا إنه «كتانونى»، فضحك أبى كثيرا من الكلمة التى أيدها له كل الأطباء النفسيين الذين عرضنى عليهم، وكان الدكتور «يحيى الرخاوى» هو الوحيد الذى أصر على أنها «حالة فصام» واضحة وضوح الشمس وليست مجرد «إرهاصات فصام» كما أفتى بها الدكتور «عمر شاهين»، مما جعل أبى لا يثق فى تشخيصاتهم ويعتبرها «مجرد حالة طارئة» تنتابنى كلما تذكرت أنى شخص فاشل عاد من الحرب التى فشل فيها الجميع فى مواجهة اليهود الإسرائيليين الذين داسوا على رؤوس الجميع بأحذيتهم ومدرّعاتهم، مع العلم أنى كنت أشك أنى كنت أسمع صوت «شخص آخر» فى بعض الأوقات، وقبل حدوث ما حدث فى سيناء بعدة سنين لكنى لم أتنبه له فى الغالب فى تلك الأيام، ربما لأنه كان فى مرحلة الطفولة غير المؤثرة فى روحى بمثل درجة تأثيره بعد عودتى من سيناء.
ومع أننى كنت أتصدع وأتمزق من ألم خفى يسيطر على روحى، وباءت بالفشل كل محاولاتى التى حاولتها بالاستنجاد بأبى لكنه كان قد توصل إلى يقين بأنى أنا نفسى ما أنا إلا «مجرد امتحان من الله له» على حسن إيمانه وما عليه- وعلى أنا أيضا - إلا الاستسلام لقضاء الله وقدره، ومن المهم أن أقوله أننى لم أستطع منع «شخص آخر» من التدخل فى الحكى، كما أنه لم يستطع منعى من الحكى، وبالتالى سوف أحاول دائما تصويب كل ما يحكيه هو من وجهة نظره لأكشف أكاذيبه ورؤيته المشوهة لكل ما حدث فى هذه الحكاية، وليس على الآن إلا أن أبدأ من البداية، مع ملاحظة أن المتفرجين هنا هم كل من يسوقه قدره لقراءة ما سوف أحكيه وما سوف يحكيه «شخص آخر», ويكون الحكم بصدق أو كذب أحدنا لكل من يسوقه قدره لقراءة هذه الحكاية، ليكون المتفرجون هم القرّاء، ويكون القراّء هم المتفرجون الذين تحيط بهم هذه الدائرة، بقى أن أقول لكم إن هذا الاعتراف الذى كتبه «القعقاع» وهو شخصية فى روايتى «دائرة المذلة» وهو شخصية حقيقية أعرفه جيدا وكتبت عنه هذه الرواية.