أحمد الجمال

عندما هتفت أعماقى: «ربنا ما خلقت هذا باطلاً»

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014 11:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وددت لو استكملت ذكريات الماضى فى قريتنا جناج، ففى الجعبة كثير.. كثير.. «فيها عن سلسلة الأضرحة التى تحيط بها وتتخللها، وكل شيخ له حكاية من أول سيدى على الزبيرى، القابع تحت جميزته الشهيرة التى انسكب من جذعها الدم، عندما حاول «مهندز» الطرق قطعها ليستقيم الطريق المسفلت، الواصل من طنطا لدسوق، وليس انتهاءً بسيدى منصور الذى جفت جميزته إلا فرعا منها أحاط بقبة الضريح كذراع ملتفة ويبقى أخضر مورقا طوال فصول السنة، رغم أن الجميز تسقط أوراقه فى الشتاء، وسيدى منصور الملاصق لدارنا القديمة لا يحب النجاسة، ولا القذارة، وإذا غامر أحدهم وربط بهيمة بجواره فهى تنفق، وإذا انخبطت إحداهن فى دماغها وسكبت ماء غسل من جنابة بالقرب منه أصابها ما لا تشفى منه.!

وفى الجعبة ما يتصل بأدوات الزراعة والقلاعة وأدوات الخبيز والطبخ وضرب الطوب، ونجارة السواقى والطبالى، وكلها انقرضت تقريبا، وفيها نوادر ومقالب صنعها الصغار فى الكبار، والكبار فى أمثالهم، وفيها عن الحب والصرمحة والاختفاء وراء كيمان «أكوام» السباخ والردم وكثافة الذرة وعيدان البوص، التى انتشرت مساحاتها على أطراف القرية!.. وفيها كلام عن الكتاتيب وحضرات الذكر ومولد سيدنا الشيخ إبراهيم بصيلة!.. وغير ذلك كثير عن عائلات اشتهرت بخفة الظل والقدرة على الضحك و«التأويز» أى «التريقة» وأخرى اشتهرت بالعبوس والجدية واحتراف الفلاحة حتى النخاع، وثالثة اشتهرت بشيوع ركوب العفاريت لنسائها ورجالها، ولجوئهم للأحجبة والأعمال أى السحر ثم حكايات ونوادر عن عائلتنا شخصيا، أى آل الجمال، بفروعهم التى تناسلت من كبيرهم المؤسس على الجمال وشقيقه، حيث نسى الحاج على ذات مرة عدد أبنائه فطلب من ابنه الذى يمضى من وراء الحمارة التى يركبها الحاج أن يساعده فى إحصاء إخوته!

غير أننى لن أستسلم لغواية الحكى عن بلدتنا ولن تستهوينى النداهة، التى طالما تخيلت أننى أراها وأسمعها، أراها وأنا قبيل السابعة سوداء ذات أجنحة ومنقار مخيف، تقف متجاورة على جدار أحد المدافن وهى تصرخ فى عز القيالة.. أى منتصف النهار اليوليوى شديد القيظ، الذى يجعل القرد يقطع رباطه، فيما غنم إبليس تجرى فى الهواء «انكسار أشعة الشمس فى الهواء يبدو وكأن موجات قصيرة تتحرك متتالية بكثافة وكأنها قطيع أغنام».. وتنادى: «يا مبروكة يا هناية» بصوت كان يجعلنى أركض ولا أتلفت ورائى، وأشعر فعليا أن أقدامى تخبط فى ظهرى من شدة الجرى ووطأة الرعب!.. وبعدها بزمان اكتشفت أنها طيور «الحدأة»، هى التى كانت مرصوصة، وأن صفير الهواء بين أعواد نبات البوص كان هو الصوت الذى ترجمته لعبارة مكتملة!.. ويبدو أن الاسم جاء من واقعة جرت فى أحد الرمضانات، عندما هرعت القرية تاركة طبالى الفطور إثر سماع صوت طلق نارى ليتبين الناس أن أحد الخفراء «غفير»، أطلق النار على رأسه لأنه عاد وسأل زوجته عن طعام الإفطار فنهرته ولم تكن أعدت شيئا.. وكان حتميا حسب التقاليد الفلكورية أن تطلع «عفريتة» للقتيل.. تصرخ فى عز القيالة باسم من تسببت فى انتحاره!

أحكى هذه المرة عن غزوة «جمالية» لما وراء المحيطات، حيث عبرت المتوسط ثم أوروبا كلها ثم الأطلسى «بحر الظلمات» كله، ثم القارة الأمريكية الشمالية من شرقها إلى غربها، هذا كله بالطائرة، ثم بالسيارة من ولاية كولومبيا البريطانية «بريتش كولومبيا» فى كندا أقصى الشمال، ومن مدينة صغيرة غاية فى الجمال بالقرب من فانكوفر إلى الولايات المتحدة، عابرا الحدود الشمالية فى رحلة امتدت برا لمدة عشرين يوما، قطعت فيها قرابة الخمسة عشر ألف كيلو ذهابا وإيابا، ومررت ومكثت فى ولايات واشنطن ومونتانا وإيداهو ويوتا ونيفادا ثم أريزونا، ثم كاليفورنيا ثم المكسيك، ثم عودة لكاليفورنيا ثم أوريجون، وصولا ثانية إلى ولاية واشنطن ومنها إلى كولومبيا البريطانية فى كندا.

ولم تكن هذه هى الرحلة الأولى من مصر إلى كندا والولايات المتحدة، لكن كان قبلها رحلة وبعدها رحلة، لكنها رحلات قصيرة قياسا على تلك الطويلة، وأذكر أننى فى الرحلة الأخيرة قبل أربع سنوات وصلت إلى نيويورك ومنها إلى مدينة «نيوهافن»، حيث جامعة «ييل» الشهيرة التى تخرج فيها أوباما، حيث كنت مدعوا لمؤتمر مشترك عن «علاقات الغرب بالعالم الإسلامى»، وتحدثت فى «كلية اللاهوت» عن تجربتى الفكرية والعملية مع الكنيسة المصرية، ومحاضراتى للشباب الوطنى المصرى المسيحى فى منطقة أبو تلات القريبة من الإسكندرية.. ثم اتجهت بالطائرة إلى الجنوب ووصلت «ٍسان دييجو»، وأمضيت استراحة طويلة لعشرة أيام فى منتجع ساحلى على الأطلسى «أوشن سايد» بصحبة الصديق جابر حجازى وأسرته!

فى الرحلة البرية التى انطلقت فيها مع جابر حجازى وزوجته، وزوجتى شقيقة جابر، بدأنا التحرك فجرا تقريبا ووصلنا الحدود خلال حوالى ثلاث ساعات، وكنت قد تلقيت تحذيرا مكررا بألا أصطحب معى «السيجار» الكوبى الذى أدخنه، لأن البضائع الكوبية ممنوعة من دخول الولايات المتحدة، منذ فرضت أمريكا حصارها الاقتصادى على دولة كوبا منذ عقود طويلة، إثر الثورة الاشتراكية بقيادة فيدل كاسترو وأرنست تشى جيفارا، وقلت سآخذ سيجارى ولكنى سأنزع الورقة التى توضح ماركته الكوبية، ثم نسيت أن أنزع الورقة.. وعلى الحدود وأمام شباك ضابط الجوازات سئلت مباشرة عما إذا كنت أحمل تبغا أم لا؟ فأجبت أننى أحمل سيجارا فسئلت عن ماركته ومكان صنعه فأجبت أنها ماركة وصناعة مصرية.. وجلست أنتظر ولكن مثل الذى أكل عجينا فى بطنه وبسرعة اصطنعت أننى ذاهب للحمام، واتجهت للسيارة وفتحت شنطتها الخلفية، حيث حقيبتى التى فتحتها بدورها واستخرجت السيجار وخلعت ورقة الماركة عن كل سيجار وكأى محترف تردد على أقسام الشرطة وقضى عمره فى الحجز، أخذت أدس الأوراق فى فمى وأمضغها ثم أبتلعها، لأن كل ما دار فى ذهنى هو أنهم قد يفتشون الشنطة ويجدوننى قد كذبت، وهناك فإن كل شىء يمكن أن يغفر إلا الكذب، وكأنهم حفظوا الحديث الذى ما معناه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سئل: «أيسرق المؤمن قال يسرق، وسئل أيزنى المؤمن قال يزنى، فسئل أيكذب المؤمن فقال لا يكذب»!!.. فالكذب عند الخواجات جريمة الجرائم وكبيرة الكبائر ويا ويلك وسواد ليلك إذا أخفيت عامدا أو حتى ساهيا أمرا يخص الضرائب أو المال العام أو أى شىء آخر، حتى وإن كنت رئيسا للجمهورية فإنه سيتم محاكمتك أو تجريسك على رؤوس الأشهاد عبر مئات المحطات التلفزيونية والصحف والإذاعات!

وما أن مررت عبر الحدود واطمأننت أننى أفلت بالدخان، حتى بدأ يشغلنى سؤال أظنه مرتبطا بأننى كنت قبل سفرى قد انتهيت من قراءة الكتاب شديد الأهمية، الذى كتبه المؤرخ الكبير «إدوارد جيبون» عن «سقوط واضمحلال الإمبراطورية الرومانية»، وهو من جزأين أتمنى أن تعاد طباعتهما.. ومرتبط أيضا بموقفى السياسى من السياسة الأمريكية والإدارة الأمريكية عبر السنين، وموقفها من قضايانا العربية والإسلامية، وكان السؤال الذى شغلنى وكنت أجمع الإجابة عنه فى كل لحظة أثناء رحلة العشرين يوما عبر عشر ولايات أمريكية هو: كيف ومتى ولماذا يمكن أن تسقط الإمبراطورية الأمريكية؟!

كانت الرحلة طويلة وأحيانا شاقة، ولكن متعة أن ترى جديدا فى كل لحظة، ومتعة أن تهتف من أعماق قلبك وأنت تقف داخل لحاء شجرة عمرها أربعة آلاف سنة ومازالت خضراء مثمرة: «ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك»، فيما لافتات صغيرة متناثرة فى تلك المحمية الطبيعة أعلى جبال سييرا نيفادا مكتوب عليها بخط واضح: «من فضلك.. هذه الحشائش كائنات حية نرجوك ألا تدوس عليها، وأن تعطيها الفرصة لتتنفس»! وتذكرت الأيام الخوالى عندما كنا نأخذها تخريمة عبر الغيطان المزروعة وندهس عيدان الذرة الضعيفة النابتة وعيدان البرسيم والقمح وغيرها، أو عندما يأخذها الناس فى مصر تخريمة برضه من فوق النجيلة النابتة اليانعة فى حديقة منتصف الشارع وتجد الأثر أمامك: شريط «جرة» يابسة كالحة لا أثر فيها لنبات حى.. بل إن جريمة قتل الخضرة فى بلدنا دائمة ومتكررة، وآخرها حرق طلاب الإخوان للأشجار فى جامعاتهم.
وللرحلة الأمريكية صلة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة