فقط فى اللحظة التى يقف فيها الدكتور جابر عصفور أمام الكاميرات يتذكر أنه مثقف وليبرالى ويتقمص الدور حتى آخره، ويبدأ فى ترديد جمل رنانة، تتراص كلماتها فى إيقاع متناغم و«شيك».. يعرف الدكتور جابر متى يرفع صوته، ومتى يجعله متهدجًا، كمن يبكى على ما ضاع من حرية التعبير.. وعندما تضج القاعة بالتصفيق يتأكد الدكتور من أنه حقق هدفه المطلوب وأقنع جماهير الفنانين والمثقفين الذين يتماهى بعضهم مع اللحظة الدرامية التى يصنعها عصفور ليتحول الجميع إلى تفاصيل درامية تخدم مشهد الدكتور المثقف وهو يقف على المسرح.
هذا ما شعرت به وأنا أتابع المثقف «الذى كان»، ووزير الثقافة المصرى الحالى جابر عصفور، وهو يتحدث عن الإبداع وحرية المبدع، ويستنكر بصوت قوى واثق من نفسه عدم تقديم النص المسرحى «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» حتى هذه اللحظة ويقول: «إن حكم مؤسسة الأزهر على المسرحيتين ليس صوابًا أو موافقًا لحكم الدين، وإنما كان اجتهادًا شخصيًا، وإن المسرحيتين تم منعهما من العرض لأنهما يتناولان قصه الثورة التى قام بها الحسين بن على ضد الظلم الذى قام به معاوية بن أبى سفيان والانقضاض على الخلافة الإسلامية».
قال الوزير أمام الكاميرات وعلى خشبة المسرح القومى: «إن هناك بعض مشايخ الأزهر لديهم ضيق فى الأفق ولا يتمتعون بسماحه شيخ الأزهر»، مشيرًا إلى أن «التعصب الدينى هو السبب فى منع بعض المسرحيات من العرض».
على إثر هذا المشهد الدرامى قام رئيس الوزراء إبراهيم محلب فى اليوم التالى بزيارة شيخ الأزهر لـ«تطييب خاطره»، وهو أقوى دليل على أنه شخصيا لا يوافق على كلام عصفور، ليبدو أن رئيس الوزراء لم يتعلم جيدًا من درس فيلم حلاوة روح.
يبدو أن وزير الثقافة المصرى الذى خرج من «حظيرة» الوزير الأسبق فاروق حسنى، بات يدرك أن أهم شىء هو الإعلام والطريقة التى يتحدث بها إلى البرامج أو أمام الكاميرات والصحف.. لم يعد يعنيه من قريب أو بعيد أن يكون صاحب موقف حقيقى ينتصر فيه لحرية الإبداع بعيدًا عن الأضواء، فالمعارك واضحة، وكان من باب أولى أن ينتصر الوزير، إلى عرض فيلم نوح الذى أجازته الرقابة على المصنفات الفنية وظلت نسخ الفيلم ملقاة فى الرقابة، لا أحد يعرف تماماً موقفها، فخسر الموزع، ولم يلتفت أحد إلى عرض الفيلم فى دول العالم، ومنها بعض الدول العربية ذلك، ورغم ذلك فإن الوزير «المثقف» خرج علينا وقتها بتصريحات نارية، بأنه مع عرض الفيلم وسيخوض المعركة لآخرها، ولكن تلك التصريحات لم ترض بالطبع الشيخ أحمد الطيب، الذى اكتفى فقط بإيماءة بأنه غاضب، فما كان من عصفور إلا أن هرول طائرًا فى اليوم التالى وذهب إلى مكتب الطيب، طالبًا منه السماح.
وقتها لم يخرج أحد ليسأل وزير الثقافة عن تصريحاته أو عن تشدقه بالإبداع وحرية المبدع، رغم أنه فى الغرف المغلقة، دائماً ما يردد للمقربين منه أنه «مضطر».
فى ظنى يا سيادة الوزير أن المثقف الحقيقى، والمؤمن بالحرية، لا يعرف كلمة الاضطرار، وحدهم فقط أصحاب المصالح، ومن يفضلون لقب الوزير أو غيره من الألقاب، هم من يلجأون إلى المواءمات.. التاريخ يذكر فقط من قام بمنع عمل، ومن انتصر لحرية عرضه ودافع عن ذلك حتى لو كان الثمن منصبه.
إذا كنت فعلًا مع حرية الإبداع، فكان لزامًا عليك أن تنتصر لعرض نوح، أو الفيلم الآخر الذى رفضته الرقابة، وهو فيلم «الخروج: ملوك وآلهة»، والذى يروى قصة خروج نبى الله موسى من مصر، والذى رغم تأكيدك على ضرورة عرض الفيلم فإن الرقابة على المصنفات الفنية والتى تتبع سلطتك قررت منع عرضه أيضا.