يحيى حسين عبدالهادى

الفقيرُ إذا مرِضَ

الإثنين، 29 ديسمبر 2014 01:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أنسى هذه الليلة ما حييت.. كان ذلك من حوالى عشرين عاماً.. أُصيبت إحدى قريباتى ببعض مُضاعفات مرض السكر.. هى سيدةٌ ثريّةٌ وأبناؤها جميعاً يعملون فى دول الخليج (أى أثرياء مثلها) فيما عدا أصغرهم الذى كان لا يزال طالباً فى مصر.. اتصّل بى لكى ننقل والدته من بيتها فى مصر الجديدة إلى المستشفى الكبير الذى أوصى به طبيبها الكبير لإجراء جراحةٍ عاجلةٍ.. رفض المستشفى الشهير قبولها لامتلاء أسرّته بالمرضى.. أمضينا الليلة نتنقل بين مستشفيات القاهرة الكبرى بسيارتى المازدا (رحمها الله) . رَفَضَتها كلُ المستشفيات الخاصة وكل الأقسام الخاصة بالمستشفيات الحكومية، فيما عدا مستشفى خاصٍ بالدقى بعد ساعاتٍ من التجول الملهوف فى شوارع العاصمة .. قلتُ لصديقٍ طبيبٍ يدير أحد المستشفيات الحكومية وكان قد انضّم لنا فى رحلة البحث (هذه سيدةٌ ثريّةٌ ومع هذا لاقينا كل هذه المعاناة فماذا عن الفقير إذا مرض؟) فأجابنى دون ترددٍ (يموت) .. وجدتُ نفسى أُغيّر اتجاه العودة تلقائياً وأذهب إلى ضريح عبد الناصر وأدعو له بالرحمة.. فهمتُ ليلتها لماذا أحبّ الفقراء هذا الرجل رغم كل أخطائه الحقيقية أو المُدّعاة .. هو الحاكم الوحيد فى تاريخ مصر الذى أحسّ بالفقير إذا مرِض والفقير إذا أراد أن يعمل دون واسطة والفقير إذا أراد أن يُعلّم أبناءه .
تذكّرتُ ذلك وأنا أُتابع المعركة الدائرة الآن حول القانون المُزمع للمستشفيات الجامعية .. لن أكرر النقاط الوجيهة التى أثارها المعارضون من الأطباء وأساتذة الجامعة وتأثير ذلك على منظومة التعليم والتدريب الطبى فى مصر.. ما يُهمنى هو البوصلة التى توّجه هذا القانون هى نفسها بوصلة أمانة السياسات التى ظننا أنها ماتت بثورة الشعب فى يناير ولكن الواقع يُثبتُ لنا أن رأس الأفعى ما زالت تبث سمومها بعد أن خرجت من جُحرِها (هذا الاقتراح كان من أواخر إفرازات الفكر الجديد وداهمته الثورة قبل أن يتحول لقانون) . الاتجاه العام هو أن المواطن يجب ألا يحصل على الخدمة إلا بمقابل وهو أمرٌ مقبولٌ إذا كنّا نتحدث عن خدمة الإنترنت أو توصيل الطلبات للمنازل، أما خدمات الصحة (والتعليم) فهى من حقوق الإنسان التى تسمو على منطق التجارة. والأمر يتجاوز مسألة عبد الناصر وحُبّه للفقراء، وإلا بماذا نُفسّر أن مجانيّة الخدمات الصحيّة من بديهيات معظم الدول المتقدمة، هل كان عبد الناصر سويدياً أو ألمانياً أو يابانياً أو كورياً؟ .. الأمر لا يتعلق فقط باليقين بأن الحق فى الصحة هو واحدٌ من حقوق الإنسان، وإنما بيقينٍ مماثلٍ بأن إتاحة الخدمة الصحية والتعليمية للفقراء هى الاستثمار الأمثل لتلك الجموع .. استثمارٌ يعود على الشعب كله .

بالطبع لا يُرضينا حالُ المستشفيات الجامعية، ولكننا مقتنعون بأن تردّى أوضاعها ليس لأسبابٍ ماديّةٍ فقط وإنما لحزمةٍ من الأسباب، من بينها سوء الإدارة .. أذكر أن المستشفى الجامعى بأسيوط فى السبعينيات كان نموذجاً للفوضى، فيما عدا قسم الرمَد برئاسة الدكتور العلاّمة محمد خَلف الحسينى (رَحِمَهُ الله)، مع أنه لم يكن يحصل على تمويلٍ إضافىٍ.. إنها الإدارة.. وحتى بافتراض أن سوء الأوضاع فى المستشفيات الجامعية يرجع إلى نقص التمويل فقط، فهل الحلّ هو استسهال الحصول عليه من جيوب المرضى (وأبدانهم) بمقولاتٍ فاسدةٍ ظلّ أذناب الرأسمالية المتوحشة يرددونها كالبديهيات من أكثر من أربعين عاماً وثبَت فشلها جميعاً؟

يجب ألاّ يكون التمويل من جيوب المرضى (الفارغة أصلاً).. سيقولون وهل عند الدولة فلوس؟ نعم عند الدولة فلوس ولكن أولوياتها مختلّة، أليس فى فائض البذخ الحكومى فى إعادة رصف الأرصفة أو إنشاء واجهات المبانى الحكومية بالغة الفخامة ما يوّفر التمويل المطلوب؟ فلنجتهد فى ابتكار مصادر إلا جيوب المرضى ولنتعلم من تجربة الدكتور محمد غنيم فى مركز الكُلى بالمنصورة، لماذا تصرّون على إعادتنا للوراء بعد أن نجحنا فى إيجاد نصٍ دستورىٍ يجعل الرعاية الصحية المتكاملة حقّاً لكل مواطنٍ، ويُلزم الدولة بزيادة الإنفاق على الصحة لتصل إلى 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية (المادة 18 من الدستور).

إن القانون المثير للجدل ليس جديداً (ولكننا يبدو أننا نعود للوراء أو أن الوراء يُعيدنا إليه) وكما يقول الدكتور محمد حسن خليل أحد أشهر المقاتلين دفاعا عن حق المصريين فى الصحة، فإن وزراء أمانة السياسات اختاروا سنة 2010 مؤسسة دوليةً مرتبطةً بدوائر الرأسمالية المتوحشة، لدراسة تدهور أحوال المستشفيات الجامعية، وكان الحل الذى اقترحته الدراسة هو الحل التقليدى للبنك الدولى وأمانة السياسات بالتبعية: تحويل المستشفيات الجامعية من هيئاتٍ لا تهدف للربح إلى شركاتٍ ربحيةٍ .. مثل شركة قصر العينى أو شركة الدمرداش للخدمات الطبية المتكاملة . (!)

إن تحويل المستشفيات الجامعية إلى شركاتٍ ربحية، قد يحوّلها إلى منشآتٍ رخامية تضاهى أفخم الفنادق التى يرتادها الأثرياء المصريون والعرب وقد يضّخ فى جيوب إداراتها (المُعيّنة) مكافآتٍ وأرباحاً تحفزهم على زيادتها بزيادة الرسوم.. أما الملايين من المرضى الفقراء الذين يشكلون الأغلبية الكاسحة من المستفيدين حالياً من المستشفيات الجامعية (رغم سوء أحوالها) فلن يتوقف أحدٌ ليسأل عنهم .. سيترحمون ونترحم معهم على هذه الأيام.

إن المستشفيات الجامعية عندما تتعاقد حالياً مع هيئة التأمين الصحى أو هيئة العلاج على نفقة الدولة، تتعاقد بسعر التكلفة باعتبارها هيئة غير ربحية، فإذا تم تحويلها إلى شركات ربحية فإن تكلفة التأمين الصحى والعلاج على نفقة الدولة ستتضاعف بلا شك.. ويتحوّل الأمر إلى متاجرةٍ فى أهم "سلعة" وهى صحة الإنسان، وتتربح الدولة من مرض أبنائها . ثم أليس من المُحزن والمُخجل أن فكرة تربّح الدولة من الخدمة الطبية لمواطنيها لم تكن مطروحةً للمناقشة فى مصر أصلاً حتى من أيام محمد على، الذى أنشأ مدرسة الطب ومستشفاها فى أبى زعبل عام 1827 لتكون أول جامعةٍ للطب الحديث فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وكانت تعالج العسكريين والمدنيين (مجاناً). وبعد عشر سنوات، تم نقلها إلى مكان القصر الذى بناه العينى باشا قبل ذلك بأربعة قرون، فهُدم وأُعيد بناؤه ونُقلت إليه الكلية ومستشفاها (المجانى) عام 1837 .

وعندما تولى الدكتور على باشا إبراهيم، عمادة كلية الطب عام 1929 كأول عميدٍ مصرىٍ لها، فكّر فى توسعة المستشفى (المجانى) فحصل على الأرض تبرّعاً من الملك فؤاد بعد نجاح على إبراهيم فى علاجه وحصل على تمويلٍ حكومىٍ رغم ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية ووافق رئيس الوزراء إسماعيل صدقى رغم سياسته التقشفية على توفير مليون جنيه على خمس سنوات لبناء المستشفى (المجانى) وتم بناء ما عُرف بقصر العينى الجديد على غرار مستشفى سان توماس فى لندن وبدأ فى استقبال الجمهور (مجاناً) من عام 1937، حيث استقبلت عيادته الخارجية وحدها مليوناً ونصف المليون مريض فى أول عام (مجاناً) ولم يتهم أحدٌ كلَّ هؤلاء بأنهم متخلفو التفكير أو يساريون أو ناصريون (لم يكن ناصر قد تخرج من الكلية الحربية أصلاً .. لكن الأهم أن البنك الدولى لم يكن قد تأسس بعد . ورغم مجانيّة العلاج وفقر الدولة، فقد كان مستشفى قصر العينى فى الأربعينيات واحداً من أفضل وأكبر 8 مستشفيات جامعية فى العالم وشهادته معترفٌ بها دولياً لأن إدارته كانت تُختار بمعايير الكفاءة (والإنسانية). أما مستشفى الدمرداش الجامعى فقد بدأ كمستشفى خيرىٍ، أنشأته قوت القلوب الدمرداشية، وعندما تحوّل عام 1951 إلى مستشفى جامعىٍ، ظلّ غير هادفٍ للربح .. بل إن أرض أكاديمية أمراض القلب الجديدة التابعة لكلية طب عين شمس، تبرّعت بها السيدة هدى حفيدة طلعت حرب، على أساس أنها مشروعٌ خَدَمىٌ غير هادفٍ للربح (وليس شركة) وقانا الله وإياكم ذُلّ المرض .









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة