فصل من رواية "حساب دنيا" لـ"محسن يونس"

الأربعاء، 31 ديسمبر 2014 07:02 م
فصل من رواية "حساب دنيا" لـ"محسن يونس" الكاتب محسن يونس

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بدأت السهرة فوق اليخت، وكان عوضين الجراس قد اصطحب معه صحبة هنية، والسر يكمن خلف رغبته فى إنتاج فيلم تدور وقائعه ولا بد فوق سطح وعمق وقمرات اليخت، فإذا كان المحروسة الأصلى قد ودع ملك مصر والسودان إلى منفاه بإيطاليا، فى مشهد وحيد بائس، فإن يخته سيكون مسرحا لأول فيلم كامل تدور عليه مشاهد كاملة، مخفيا فى نفسه أنه سوف يجبر المخرج على تصويره فى عدة لقطات، وهو يجوب السطح، عاقدا ذراعيه خلف ظهره، أو مرتكنا إلى سوره ناظرا إلى البحر، ومن فوقه تحلق طيور النوارس، استقبل شلة "المقاطيع" كما كان يسميها، كانت الرحلة إذن هى العمل على اقتناص فكرة، بحضور المخرج واثنين من كتاب السيناريو، واحد سمين وقصير، والثانى طويل ونحيل، فى جلوسهما دائما متلاصقين تأكيد لتوافق التناقض.. كيف؟ هى الدنيا وحدها يمكنها فعل ذلك، وأستاذ دكتور فى الموروث الشعبى، له كتاب يبحث فيه عقدة التوريث فى مفهوم الجماعة الشعبية، تسبب فى سجنه مدة، وما يزال السؤال المحير له، هو لماذا تم سجنه، وهو يقدم علما، وليس منشورا سياسيا؟، استقبل اليخت أيضا من الصحفيين اثنين يعملان كمحررين لصفحات الفن، منهم واحد يكتب القصة القصيرة، ويظن نفسه أبا زيد الهلالى سلامة الغازى فى مجالها، جلس بجانب ممثل مخضرم ضخم الجثة له كرش، وبسبب تكوينه هذا كانت هناك أدوار يكون جسده والكرش هما السبيل لجعله مطلوبا، ترك الصحفى زميل المهنة يجلس بعيدا عنه، بينما اصطفى هذا الممثل، يجلس دائما لصيقا به، كان يسمح للمخرج فى بعض الأحيان أن يفضفض ويتجاوز معه، ولكن فى حدود، ولذلك قهقه ضاحكا حينما أشار إليه قائلا لبقية شلة المقاطيع: "هذا فقس البيضة التى كنت أحدثكم عنها، دون وضع علامات استفهام، فأمثاله توالدوا وفقسوا من بيضتهم خلال ما يزيد عن الأربعين سنة من تاريخ البلاد".

جاء الشرط حاسما، وبلا أخذ ورد، يؤكده وجه صارم له عين جاحظة، والثانية التى يرتخى جفنها العلوى لدرجة تحسبه نائما، فى وجه بشكل عام يشبه جذع جميزة كثيرة العقد عند منبتها من الأرض: "اتفقنا على ألا نتكلم فى السياسة.. أنت هنا فوق المحروسة.. عش وتمتع..".

كادوا يتركون المصور الخاص لأفلام المخرج، سمعوا صيحاته، وهو يأتى على بعد بجسمه السمين تلابط كتله بعضها البعض، يحمل حقيبة ثقيلة ويمسح عرقه، فى ارتباكه كاد ينزلق إلى ماء البحر وهو يصعد، صوت أنفاسه المتلاحقة جعل أحد كتاب السيناريو يفتح ذراعيه وهو على سطح اليخت: "تعال يا حيلة، ألف مرة قلت لك تخسس شحوم الفيل تصبح رشيقا وأمور" "وألف مرة قلت لك أنا راض بشحومى واذهب بزلومتك بعيدا عنى.. بسم الله.. الله أكبر".

وهم يلتفتون للدخول إلى قلب اليخت أشار المخرج نحو البحر فى مداه الممتد حتى انكفاء الأفق قائلا: البحر هو الحياة.. أسلافنا صعدوا منه إلى اليابسة، لذا حملوا معهم نفس طباعه، الهدوء الذى يخفى العنف، البساطة التى تحتها التعقيد، رأوه يأخذ سمت الحكيم، رافعا ذراعه لأعلى فى مستوى كتفه مدة طويلة، وعليهم الموافقة على كلماته، صاحوا مهللين: "لم نكن نعرف عنك هذا يا سيد دارون، أرنا خباياك الباتعة يا كبير.. "
"أنا البحر، والبحر أنا.."
"طيب أنزل ذراعك وإلا تيبس على وضعه"
"أنت البحر فى أحشائك الدر كامن"
"المخرج حامل ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله !!"
"لله فى خلقه شئون.. ممكن.. احتمال.."
"كل واحد منكم يلزم حدود الأدب"

ظلت السهرة تأكل الليل، حتى سمعوا صوت ديك بعيد، مما يعنى أن اليخت مازال قريبا من اليابسة، منحت الكوكوو رأس المخرج، وهو ينفث الدخان الأزرق من فمه، وفتحتى أنفه معا إطلالة عجيبة من داخل سحابة الدخان، فكأن وجهه أيقونة تحيط بها غيمة، ولكن الأكثر حضورا هذه الدهشة التى افترشت صفحة وجهه المخدر: " هل فى البحر ديوك مسطولة مثلنا؟!"

جاءت الإجابة بعد صمت طويل، كان كفيلا بطوله أن ينسى المخرج سؤاله، رغم أن الدهشة ظلت على طبعتها، بل كانت تزيد فى كل ثانية عتاقة وثقلا: " وفراخ بياضة وحياتك"

قال واحد معلقا إنه حيث توجد الدجاجات يوجد الديوك، وأن هذا طبيعى..
"وأين هى الفراخ ؟ رحلة ناشفة لا تبل الريق"
"قصدت أن تكون الرحلة نظيفة، وعموما الفراخ على قفا من يشيل.. لكن قل يا نفس.."
قال أحد كتاب السيناريو وهو مدملج الجسد متينه، مشغول بحك فوهة أذنه بشدة: "الديك فى المفهوم الشعبى يعنى رجل فحل.."
"طيب يا أخى حضرتك دكتور فى الشعبى واكتشفناك؟! هىء."
"كان عندنا ديك بعد أن طبخته أمى، وطلعته خارح الحلة ووضعته على طبق كبير وسط الطبلية، وجدناه يقف على قدميه ويصيح فى وجوهنا بكوكوكو.. "
"أنت يا بنى طرت من أول نفسين.. يظهر أنك فسل.."
"متأكد يا ابن شارع الصحافة أن أمك ذبحته ؟"
"الحقيقة لست متأكدا.."
"السؤال المنطقى ليس هذا، وإنما هو هل الديك كان يعرف أنه ذبح؟"
"لا، السؤال الأكثر منطقية هو.. هل طلق أبوك أمك ؟.."
"لا، لم يطلقها، ولكن ما السبب الذى يجعله يطلقها ؟!"
صوت الجميع ممطوطا كسولا بفعل التخدر، ولكنه يحاول أن يكون موقعا كلحن فى أغنية ساخرة: "السبب.. السبب.. السبب.. السبب، لا تسألن عن السبب، فإن فى السبب يكمن كل النكد.."
أزت جمرات الفحم فى الموقد، وهى تتلقى بول الصحفى فى توجيه متعمد، اندفعوا مترنحين، ولكنهم كانوا فى أشد الغضب، وهم يدافعون عن استمرار اللهب فى قطع الفحم، صاح المخرج بصوته المبحوح: "الخائن ضعوا حتة فحم نار قايدة فى سرواله "
السيناريست المدملج الجسد ضحك وضحك بسبب ضحكه: "الأجدى جرسوه الآن حالا "
انقطع الحماس حتى أن من كان يحاول خلع سروال الصحفى توقف عند سؤال واضح الاستنكار: "وما الفائدة فى أن نرى سوءته؟! "
وتأكد معنى جديد بعد أن جاء توضيح آخر: "من قال بالتجريس بهذه الصورة ربما كان شاذا "
جاء توضيح آخر، وهم يعودون إلى سابق جلستهم، كل واحد منهم فى مكانه، بعد أن اطمأنوا إلى عودة النيران إلى الفحم، وفشلهم فى تحديد من زعم بشذوذ صاحب فكرة التجريس بتجريد المتبول من سرواله: " شاذ أو ليس بشاذ هو حر فى حياته "
جاءت المفارقة فى قول أحدهم على الفور: "ولكنه يقلب حياته رأسا على عقب "
عندما استوعبت أدمغتهم المفارقة انطلقت الضحكات المنوعة منها ما لها ذيل، ومنها القاطعة، ومنها التى انتهت بشخرة، وهم يبدأون جولة جديدة مربتين على كتفى الممثل المخضرم، الذى بأريحية أخرج من جيبه قطعة ملء كفه من الحشيش، وضعها على الطاولة قصيرة الأرجل الملتفين حولها فى شبه دائرة جلوسا على أرض اليخت: "هذه ضريبة الفعل الجانح مع رجاء العفو والسماح من الحشاشة وليلتهم التفاح "
" مقبولة الضريبة ولكن لا يمكن التغاضى عن سماع أسباب الفعل المتهور، ثم هل أنت المتهور؟!"
من استلقائه مسندا رأسه على راحة يده صاح المخرج: "يا أولاد الهرمة أنتم تتمحكون، كنتم تريدون مشاهدة سوءتى "
فجأة عيط وبربر ونف، وهو يدور فى المكان تائها، إلى أن تذكر فعاد إلى مكانه محزما ركبتيه بذراعيه، نظر إليهم وعيونهم معلقة به فى ثبات: "لا تؤاخذوننى يا جماعة تذكرت حياتى الأولى فغلبنى البكاء "
" المفروض تنساها، ربك كريم.."
" هو بكاء مثل بكاء الطفل المولود يا جماعة.. أنت طبيعى.. لكن أتريد الرضعة، أم تريد تغيير البامبرز؟ "
قطع الضحك عودة ذلك الديك للصياح مرة أخرى، فلم يستطع المخرج أن يقول ما كان يود قوله ردا فاحما لمن أطلق سخافة الرضعة والبامبرز، جذبهم الصياح، وقالوا أن هذا الديك ليس ديكا صاحب تجربة مع الفراخ، وإلا ضبط إيقاعه، أكبر الظن أنه ديك دخل فى مرحلة بلوغه، ويريد جذب الأنظار إليه، وهذا سبب عدم مراعاته وقت الخيط الأسود والخيط الأبيض، بدليل أن الشمس ظهرت فى الأفق حمراء دائرة كبيرة..
" وهل رأيتها رؤية العين يا أستاذ ؟ أم هو خيالك الإبداعى ؟ "
" رأيتها من نافذة الحمام عندما كنت أبول، وهى تصعد من بين مياه البحر "
" عموما القول الفصل الذى غاب عنا، وجعلنا نضرب فى كل واد.. حلوة فى كل واد.. أن سماعنا صوت الديك بهذا الوضوح معناه أن اليابسة قريبة جدا، بل قولوا أن اليخت يركب فوقها.. "
هاج المخرج مقسما ألا يغادروا إلى النوم قبل شيئين آخرين يفعلونهما، وبعدهما يمضى كل إلى سريره، الأول دور أخير من حشيشة معتبرة أهداها إليه صاحبه وحبيبه فى خفية عنهم فى أول حضوره، تاجر الصنف المعتبر، أشار بكسل نحو عوضين الجراس، ورأوه كأنهم يرونه لأول مرة، مفلفل شعر الرأس، وعينه الجاحظة قلقة فى محجرها تتأرجح كالبندول، إلا أن أحد الصحفيين خبط على صدره، مع شهقة مفتعلة: "يا خبر أسود من قرن الخروب، يا داهية دقى.. معنا تاجر مخدرات؟! يا سعدنا يا هنانا.. "
انتظروا من المخرج الإفصاح عن الشىء الثانى، ولكنه أغلق فمه وسرح مع خياله، وهو يحتضن زجاجة الويسكى، مما أغاظ الممثل المخضرم، وحاول انتزاعها منه، فتطاير طبق البولا، وتناثرت قطع المكسرات والشيبسى وطالت حجورهم، قفز المخرج مطبقا على رقبة الممثل، وتكاتف الجميع لإبعاده، كان الحل هو تلك الزجاجة الطويلة ذات العنق الطويل، حينما لوح بها أحدهم هدأ الجميع: " إليكم الفودكا، أحسن وأمتع من الويسكى "
تخابطت الكؤوس برنينها الزجاجى، قال المخرج: "صاحبى عوضين الجراس يا جماعة يريد إنتاج فيلم أخرجه أنا "
تساءل السيناريست وكان طويلا رفيعا: "والقصة؟ "
" اقترح يا محترف.. "
" لكن.. هل له فى الصناعة ؟ "
باغت السؤال المخرج، حك جلدة رأسه عدة مرات، وفرح وجهه فجأة، ووقف وقفة الخطيب، محركا كأسه مع كل كلمة فى اتجاه عوضين الجراس: " الوجيه الأمثل عوضين الجراس صاحبى، التاجر الخفى.. الرأسمالى الطفيلى، راكب المرسيدس بنز، والجزمة الأجلسيه من علاماته، والبرفان شبيه الرائحة بالبيرسول قاتل الحشرات، مرهوب الجانب يمكنك الاعتماد عليه كواسطة تفوت فى الحديد، وتسهل لك أمورك حتى لو كانت غلط.. ماذا تريد أكثر من هذه الضمانات ؟! "
ابتسم عوضين، ومال بنظره نحو الجزمة وسكنت نظراته عليها مدة طويلة.. بينما استعد السيناريست الأول بعرض فكرة قصة صالحة للتعديل بالنقص والإضافة حسب المطلوب، وقال أن السينما منذ الستينيات من القرن الماضى عزفت عن إنتاج الأفلام التاريخية والمغامرات الخيالية، لذا يقترح أن يكون الفيلم من تلك النوعية، التفت إلى المخرج ضاربا على كتفه بظاهر يده: "وتكون لك الريادة يا فنان.. "
" هات فكرتك، وخلصنا من المقدمات.. "
ألقى آخر ما فى الكأس فى جوفه، ورفض غابة الجوزة التى امتدت إليه، تنحنح عدة مرات..
(اشترى رجل من المياسير مرآة اتقاء لشرور قائد جند الأرناؤط – وهؤلاء كانوا أيام حكم محمد على باشا – فى الليلة السابقة نَقَبَ قائد الجند هذا مع جماعةٍ من أهله جدار متجر الرجل الميسور فى سوق الجمالية ونهبوه، ومن نكد دهره عليه أن هذا الأرناؤطى باعه البضائع المسروقة من محله، ونقده مبالغ أعلى من سعرها وهو صاغر، لم يقف أمام هذه المرآة يوما، فقد كانت تذكره بهوانه وقلة حيلته، كما أن قصره يمتلىء بالمرايا، وضعها الخدم هناك فى نهاية ممر ينتهى بجدار لا نوافذ له، ولده الوحيد وعزه ومنتهى أمله هو من كان دائم الزيارة، أعطته المرآة فى البداية ألعابا أبهرته، كانت صناعتها مغشوشة الصقل، على الصبى فقط التحرك أمامها، فتظهر له أذنيه على سطحها فى الطول مثل أذن الأرنب، وأنفه زلومة فيل، وإذا مط شفتيه رأى شفرى جمل، وإذا مد ساقه ورفس بها ظهرت ساق حمار، الخلاصة وجه مشوه بالكامل أضحك الصبى فى البداية، بعدها تأكدت الرغبة فى الحصول على وجه يماثل وجه المرآة، طوال عمره الذى عاشه لم يرض عن ذلك الوجه الربانى الممنوح له بقدرته، ولم يحمد للطبيعة أن منحته وجها متكامل الملامح، لم يرتح إليه لأن المرآة قالت أن العيب دافع مستمر يدفعك للحصول على الكمال، هل يمكن لأحد أن يوجه له اللوم فى بذر بذوره مستقبلا، والانتماء إلى طبقة المياسير التى تقدم الوزير، والعالم والكاتب، وتقدم المجنون المحتجز فى المورستان، وتقدم اللص وخرب الذمة أيضا لبحر الحياة ؟! )
حدقوا بتركيز ودهشة غير مصدقين خروج العبارة من فم عوضين الجراس: "جاحد أعمى البصيرة من يتصور أن الجماد جماد، لا يمكن له أن يفتل فى جموده حبائل خدعته.."
حدق هو أيضا فيهم مستنكرا: "أحفظ كثيرا من أشعار الصوفية، وأعرف الحياة وخبرتها عاندتنى وعاندتها، شققت بطنها، وبان لى الكثير من حكمتها وحمقها أيضا.."
"وماذا تقول فيها ؟ زدنا من معارفك"
"لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هى الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ"
عم صمت على صمت، قطعه صوت المخرج الأجش: " يكفى فلسفة.. الفكرة عظم لا لحم فيه.. لصوص سرقوا، ما ذنب الذرية يصيبها العته ؟! المفروض العقاب يكون للصوص.. لا.. لا.."








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة