فى كل مقال أكتبه أبحث عن هم عام أو مشكلة أو قضية أحاول أن أجمع أطرافها ومعلومات عنها وأعمل عقلى فيها قدر استطاعتى وبعيداً عن العاطفة أو الذاتية وقد أنجح أو أفشل فلكم الحكم، ولكن اسمحوا لى فى هذا المقال أن أخرج عن نهجى الذى أحاول أن أتبعه، فهذا مقال شديد الذاتية سأتحدث فيه عن مشاعرى وعقلى تجاه قضية قد تبدو عامة ولكنى سأعرضها بمنظور شخصى بحت.
أنا مواطنة مصرية عشت أغلب سنوات عمرى فى بلد يحكمه رئيس اسمه محمد حسنى مبارك ورأيت فيما يرى اليقظان أن كبارى تُبنى وشوارع تُشيد ومبانى تزيد وشركات تُنشىء ومدن تُبنى، ولكن بنفس درجة اليقظة كنت أرى الكبارى تتهدم والطرق تتكسر والمبانى تقع فوق رؤوس أهلها والشركات تنهب وتباع والمدن الجديدة تقابلها عشرات ومئات وآلاف من العشوائيات خارجها وبداخلها، ورأيت أيضاً فيما يرى اليقظان مساحات الأرض فى بعض الصحارى تخضر ولكن فى مقابلها رأيت آلافا من الأفدنة الأجود للزراعة فى العالم تكسوها غابات من الأسمنت القبيح وتبور ولا أحد يحرك ساكناً.
ورأيت وأكلت فيما يأكل اليقظان تفاحا و«كانتالوب» كان المصريون لا يعرفونهما، ولكن فى مقابل ذلك نسيت طعم عشرات من أصناف الخضراوات والفاكهة التى كانت مصر تعرفها وتتميز بها وضاع طعم كل شىء، وقالوا لى ولكم إن طعامنا صار مسرطنا ولكن حتى الآن لم يؤكد أو ينفى لى أحد تلك الحقيقة أو الخيال، رغم أن الرجل الذى حملوه المسؤولية يوسف والى مازال حيا يرزق، ورغم أن أَسرة المستشفيات لم تعد تكفى لمرضى السرطان وفيروس سى وغيرهما من الأمراض التى يسببها التلوث. ورأيت فيما يرى اليقظان أن كثيرا من الأعمال زادت ولكن قلت الفرص لأن الوساطة زادت فوصل كل من لا يستحق لمكانة لا تليق بأغلبهم. ورأيت فيما يرى اليقظان شباب مصر يزيد وصورهم تتصدر الإعلام ببدل أنيقة يقفون فى صفوف وشكلهم يفرح، ويقولون إنهم شباب جمعية المستقبل التى أنشأها جمال مبارك، وفى المقابل رأيت فيما يرى اليقظان شبابا من الفلاحين والعمال وحتى خريجى الجامعات يبيعون آخر أسورة فى يد أمه، أو آخر قيراط أرض يملكها أب عجوز ليدفعوا لسماسرة الموت ثمن تذكرة فى مركب متهالك يأخذهم إلى المجهول.
ورأيت وسمعت وقرأت فيما يرى ويسمع ويقرأ اليقظان صحفا ومحطات تليفزيون خاصة وعامة تظهر وتزيد وأقلاما تتحرر من خوف الكلمة، وأصوات تعلو بصراخ وانتقاد لكل شىء فى البلد، ولم يعد لدى البعض خطوط حمراء ولا بيضاء ولا صفراء بل قرأت بأم عينى من كتب يقول لرئيس مصر ذات نفسه إنى أتقيأك، ولكن فى نفس الوقت رأيت فيما يرى اليقظان أن شعار «دعهم يقولون فالقافلة تسير والكلاب تعوى» هو شعار الحكم والسلطة التى على رقاب العباد. ورأيت فيما يرى اليقظان حياة سياسية تتسع بأحزاب تزيد كل يوم وتقدم استجوابات للحكومة وترفع صوتها فى البرلمان صارخة، ولكنى رأيت أيضاً فيما يرى اليقظان أن نفس هذه الأحزاب ما أن يرفع شخص اسمه أحمد عز يده فى نفس البرلمان تنخفض الأصوات وتنكس الرؤوس ويتفق الجمع على ما يريد المايسترو فى قوانين تُشرع لمصلحة فئة قليلة، وكأنهم فهموا قول الله تعالى، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وأرادوا تطبيقه بحذافيره.
رأيت فيما يرى اليقظان كل ذلك وأكثر، ولكن كله وأكثر كان يهون لو أن الخطأ والخطيئة والفساد قد طالت الزرع والضرع والمال فكل هذا قابل للتعويض والإصلاح فى سنين، ولكن ما هو ليس قابل للتعويض ولا الإصلاح فى قرون هو فساد الإنسان ووعيه وضميره، وأستطيع أن أقول بكل ثقة إن جريمة مبارك فى إفساد الإنسان المصرى هى كبرى الجرائم والتى ليس لها من قانون نحاكم به من يفعلها، ولذا فليبرئه القضاء وليزغرد لبراءته المحبون، وليبكى المزايدون أو المحزونون، ولكنى أنا المواطنة المصرية أنتظر فيه حساب الله الذى لا يضيع معه حق.