الثورة الليبية التى انطلقت فى فبراير 2011 اختلفت عما جرى فى مصر وفى تونس.. كلنا نذكر كيف انطلقت فى شكل مظاهرات سلمية، وكيف بسرعة فائقة صارت ثورة مسلحة.. طبعًا الآن سيقول الكثيرون إن تسليح الثورة تم بفعل قوى خارجية، والمتابع للأحداث يذكر جيدًا كيف ظلت سلمية حتى بدأ النظام الليبى يقتل بلا توقف فى شباب الثورة.. قتل بكل الأسلحة الممكنة من الدبابات حتى الطائرات، وفى الأيام التى استعد فيها لدخول بنغازى بكل أسلحته تسابقت الأمم المتحدة لإصدار قرار بالتدخل الجوى فى ليبيا لمنع طائرات القذافى من سحق الشعب.. كانت وقتها قوات القذافى المدرعة على أبواب بنغازى، ولم يكن باقيًا إلا ساعات على اقتحام المدينة، لكن طائرات حلف الأطلنطى أوقفت ذلك، بعدها انفتح الباب للأسلحة.
فى معرض الكتاب هذا العام أهدانى الصديق الكاتب والروائى والمناضل الليبى إدريس المسمارى كتابه الذى عنوانه «سيرة فبراير».. تذكرت حين أهدانى الكتاب كيف جاءتنا الأخبار مع اندلاع الثورة بالقبض عليه من قبل النظام الليبى، وكيف لم نستطع الاتصال به.. التقينا بعد ذلك فى القاهرة لقاءات سريعة بعد أن انتصرت الثورة.. فى الكتاب يحكى إدريس الأيام الأولى من الثورة، وكيف حين اندلعت المظاهرات فى بنغازى فى الخامس عشر من فبراير تم القبض عليه بعد أن انتصف ليل نفس يوم اندلاعها.. لقد خرجت أعداد من الشباب الليبى تندد بالنظام الليبى، رآهم إدريس فى الطريق، فانضم إليهم وهو الرجل الذى تجاوز الخمسين، ويمشى متكئًا على عكاز.
لقد عرفت إدريس أول مرة فى ليبيا عام 1988 فى إحدى الندوات، وعرفت منه كيف قبض عليه من قبل لعشر سنوات قضاها فى سجون القذافى، هو وعدد من أنبل الشباب الليبى فى ذلك الوقت.. بعدها أمضى إدريس معظم حياته فى القاهرة بشكل متقطع.. كنا نلتقى أحيانا بدار «ميريت» للنشر وأحيانا فى الطريق.. يحكى إدريس كيف حين انضم للشباب قرر الاتصال بالفضائيات العربية، قام بالاتصال بالصديق محمد هاشم، صاحب دار «ميريت»، معلنًا له أن الثورة اندلعت فى بنغازى، ويريد الاتصال بقناة الجزيرة.. كان معروفًا أن النظام الليبى لا يسمح للفضائيات العربية بالبث فى ليبيا طيلة حكمه، ليس مسموحًا إلا بالقنوات الرسمية الليبية التى لا عمل لها إلا أحاديث ومواعظ القذافى، الأمر نفسه كان بالنسبة للصحافة الليبية.. بعد قليل وجد من يتصل به من قناة الجزيرة يطلب منه أن يشرح ما يحدث.. كان اتصال إدريس أول اتصال مع الخارج، أعلن فيه أن الشعب الليبى انتفض والثورة بدأت، طبعا لم تكتمل المكالمة، وقطع الخط، لكن كان صوته قد انطلق، وكانت قوات الأمن تهجم عليهم بالعربات المصفحة، وتفرقهم بالماء، وببلطجية النظام مما أوقعه أرضًا فحمله الشباب بعكازه وذهبوا به بعيدًا.. عاد متأخرًا إلى البيت، وبين زوجته وأولاده كان يعرف أنه سيتم القبض عليه الليلة.. وبالفعل فى منتصف الليل حضر بلطجية القذافى، واقتحموا البيت للقبض عليه لكنهم فشلوا.. إدريس معروف عند النظام، ومن ثم كان لابد من معاملة أخرى حتى لا تتفاقم الأمور، وهو خلاص من أى انتقام من أسرته.. استجاب لدعوة زملائه من المثقفين بتسليم نفسه للتحقيقات فى الأمن الداخلى.. الكتاب هو حكاية الأيام التى قضاها فى التحقيقات فى السجن فى طرابلس فى الأيام الأولى للثورة، حتى أفرج عنه نظير حديث يقدمه فى تليفزيون ليبيا يدعو الناس إلى الهدوء، وهو الحديث الذى لم يتم، وهرب إدريس من طرابلس عن طريق أصدقائه إلى تونس بعد عدة أشهر قضاها بين السجن والشارع وأصدقائه.. الكتاب تبدو فيه روح إدريس فى منطقة الثورة، أجل، وفى منطقة الإنسانية التى تعرف وقت المحن، وكيف أن إرادة الله الخيرة سوف تنفذ، ومن ثم ينتهى القلق.
فى هذه الرحلة التى امتدت لحوالى أربعة أشهر من فبراير عام 2011 حتى يونيو، حيث غادر إلى تونس، نرى كيف كان يقال عن الثورة الكلام نفسه الذى قيل عن ثورتى تونس ومصر ويقال الآن للأسف بكثافة من كونها مؤامرة خارجية، كأن النظم التى ثارت عليها الشعوب كانت نظمًا ملائكية. سنرى فى الكتاب كيف كان القبض العشوائى للنظام الليبى على مصريين وتونسيين وأفارقة، سنرى كيف كان التعذيب الذى يؤدى إلى الجنون، سنرى حيرة بعض المثقفين الذين لا يستطيعون قطع الشعرة الأخيرة بالنظام، وفى الوقت نفسه يحاولون الحفاظ على حياة إدريس.. وهى الحيرة التى لم يحكم بها إدريس على أحد حكمًا سيئًا، بل احتد واحتج، لكنه فى النهاية ترك نفسه لهم، وإن لم يفعل ما يريدون حتى ولو من باب الإفراج عنه بثمن بخس فى نظرهم هو أن يعلن للناس أن ليبيا أكبر، وأن عليهم الحفاظ عليها.. سنرى كيف أن بالأجهزة الأمنية الحوارات نفسها فى كل البلاد العربية، كأن رجال الأمن جميعًا تخرجوا فى مدرسة واحدة، كلامهم لا يتغير للمتهم.. أنت لا تعرف، ونحن نعرف المؤامرة.. يجب أن تصدقنا، أنت لا تعمل وحدك، من هم الذين تعرفهم فى الخارج ويشجعونكم، اعترف بذلك تخرج فورًا، وغير ذلك من التهجيص أمام متهم موجود طوال عمره فى البلاد فى سجنها أو فضائها، ويعرفون عنه كل شىء وعن أهله وأسرته.. سنرى الأشهر القليلة التى قضاها إدريس ضائعًا فى طرابلس، لا يستطيع العودة إلى بنغازى حتى يجد له الأصدقاء مخرجًا إلى تونس، ومن هناك يطل على الفضائيات العربية والأجنبية، يحكى ما رأى، وما يحدث فى ليبيا حتى يعود إلى بنغازى يواصل الثورة.. سنرى الأديب الثائر الذى تتعطر لغته بالروح المحلقة.
وإدريس فى هذا الكتاب الممتع لم يكتب كل أيام الثورة.. كتب سيرته فى الأيام والأسابيع التى قضاها بين الاعتقال فى السجن أو الخروج، وبقائه شبه معتقل فى طرابلس لكنه يستطيع الهرب إلى تونس.. سنرى القلق الإنسانى على الأسرة حقًا، والاطمئنان الجميل الذى تسكبه السماء على روحه، وهو الذى لم يفعل حتى الآن غير الانحياز للشعب كما كان منحازًا دائمًا، وكلفه ذلك عشر سنوات من عمره من قبل فى السجن، وسنوات طويلة فى المنفى.. كتاب «سيرة فبراير» الصادر عن دار النهضة العربية ببيروت سيرة لروح إنسان جميل معذب بالوطن الذى سيطر عليه نظام لا يعرف قيمة الوطن والمواطن، فسقط إلى مزبلة التاريخ.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة