لعلها حالة غير متكررة تمر بحياة ذلك الثائر الذى يكتب عنه جابريل جارسيا فى إحدى واقعياته السحرية عندما تتداعى على عقله الذكريات فى لحظة نادرة، لأنه مهما كانت محاولاته الحثيثة لاجترار تلك اللمحات، فهى دائمًا تبوء بفشل لا بأس به.. تبدأ الحالة بسطور قليلة يرسل بها الناشط السياسى طارق الخولى، أحد مؤسسى حركة 6 إبريل فى عام 2008 إلى الكاتب: أنت سعيد بصداقة حمدين.. عيب تنتخب غيره يا أخى! فكان الرد: الصداقة حاجة ومصلحة البلد فى مرحلة صعبة حاجة تانية.
طارق: يسلم فمك.. بس الشتيمة كتيرة أوى يا چو، أبويا وأمى اتشتموا كتير أوى علشان قلت هنتخب المشير السيسى، علشان ده فى مصلحة مصر. فجاء الرد: معلش كلنا كده، وبكرة يفهموا إن لما وثقنا فى السيسى كان علشان مصر اللى اتحبسنا علشانها، واتقطع عيشنا علشانها، محدش يزايد علينا، ولو السيسى أخطأ هنصلح له مرة واتنين، أخطأ تانى هنعلموا، لكن لو كررها هنرجع معارضة، ولو لا قدر الله أفسد، هنبقى أول ناس تثور عليه، وأول ناس تترمى فى سجونه، وأول ناس تتقتل برصاصه، ده قدرنا يا طارق.. طارق: أيوه كده، هو ده الكلام.
وهنا تنتهى سطور الرسالة ليجد الكاتب نفسه يشعر بضرورة الاتصال التليفونى بطارق، ليس من باب صداقة تربطه به، وليس من باب مسؤولية تجاه شاب لا يحمل من العمر سوى 28 سنة ليقول له: ماذا بك هل دخلت فى مرحلة الشك؟! هل وجدت الغالبية العظمى من أصدقائك يتهمونك بالخيانة وبيع المبادئ؟ هل بالضرورة أن يكون المحيطون على حق وأنت على باطل؟! وماذا عن عقلك أنت! هل تلغى عقلك لترضى الأصدقاء ورفاق الدرب والنضال؟! يا صديقى أنت فى فترة الريبة، وكلنا فى فترة الريبة، وهكذا كان نفر قليل منا فى مرحلتى الانتخابات الرئاسية السابقة حين رفض بعضنا التصويت لمرسى أو لشفيق بل ذهب البعض للهجوم على الاثنين، فهجم على أنصار كلا المرشحين، حتى إننى وقفت مع ذاتى نفس الوقفة التى تقفها الآن وهى الارتياب والميل تجاه ما ينادى به الأصدقاء، خوفًا أن تكون مخطئًا فتحمل على كاهلك أوزار وطن بكامله، لكن لتخرج من هذا الارتياب عليك أن تسأل نفسك باحثًا عن الإجابات المنطقية، لا تلك الإجابات التى تريح الأذن، ولا تسكت صوت الضمير.. هنا أتذكر صديقى اليسارى الهوى الذى دعى لإبطال الأصوات، لكنه ذهب لإعطاء صوته لمرسى حتى بالرغم من محاولات حبيبته إثناءه عن ذلك، لكنه فضل أن يرضى أصدقاءه على حساب قناعاته، كما أتذكر ذلك القومى الناصرى الشهير الذى أعطى صوته لشفيق رغم أنه ملأ شاشات التليفزيون صخبا بأن من يصوّت لهذا المرشح فإنما هو يخون الوطن!
أن تكون ابنا لمبادئك لا يعنى أن تنحى المنطق والعقل جانبا، وحساب أولويات الحالة الراهنة، وعليك أن تعى دائمًا أن ليس كل رائج هو جيدًا، وليس كل ما ذاع صيته فهو ذا قيمة، فكم من مطرب تافه حصد شهرة أكثر من فيلسوف عميق! وكم من رواية سطحية طبعت أكثر من قصة رائعة!.. سيظل ذلك المنافق بقامته الطويلة ووجهه المصفر ولسانه المتلعثم موجودًا يبث سمًا، لكنه سيبقى نصف كاتب، ونصف مقدم برامج، ونصف مخبر، بل حتى نصف خائب، سيظل هناك ذلك التافه الجاهل ينافق الناس، ويسمع بعضهم ما يريدون، وسيظل ينشر مقالات مكتوبة بقلم صديقه، أو قل أجيره النصف موهوب، ويصفق بعض العامة دون أن يدركوا أن له وجهًا عكس ما يعرفون، وسيظل هناك ذلك الفوضوى النصف ثائر، والنصف وطنى، والنصف رجل، مهموما بأن يظل اسمه محط اهتمام لبعض مرتادى مقاهى البورصة وبارات قصر النيل.. نعم يا عزيزى، كل هؤلاء سيظلون، ولكن لن تدوم لهم سوى مساحات الهوامش فى دفتر أحوال الوطن، وسيبقى آخرون هم متن الكتاب وأساس ضفتيه، سيأخذ عنهم وسيرد عليهم ولكن سيبقون.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة