أحمد الجمال

عندما يهب نسيم الوصل على الندامى.. مدد.. مدد.. من غير عدد.. يا آل البيت

الثلاثاء، 18 فبراير 2014 11:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لفت سيدى على درويش انتباهى إلى بدء مولد مولانا الإمام الحسين بن على، رضى الله عنه، وكرم الله وجه أبيه، وصلى الله وسلم على جده، أبى الزهراء محمد بن عبدالله المبعوث رحمة للعالمين.
وأقول «سيدى» لأننى تعلمت فى ساحات التصوف وحلقات الذكر أن أخاطب الآخرين بسيدى فلان، فما بالك وسيدى على درويش ليس كغيره ممن عرفتهم، رغم أننى لم ألتقيه سوى مرة واحدة منذ سنين طويلة لا أحصاها عددا، وللقائى معه قصة سوف يأتى ذكرها فى سطور هذا المقال..
قرأت ما كتبه فى «اليوم السابع» يوم، السبت الفائت، وأشهد أننى كلما طالعت وجه سيدى على الذى تحمله صورته المرافقة لمقاله أرى النور متواجدا فى حضرة النبى المصطفى وآله.. والتواجد هو أن يبلغ الوجد مداه لتبقى كل خلية فى كيان المحب يقظة، وإن هامت فى عالم الفناء.
التقيته بعيد بداية الألفية وتعود مقدمات لقائى به إلى أوائل عام 1984، عندما تلقت جريدة الخليج الإماراتية التى أعمل بها، وكنت آنذاك ما زلت فى الشارقة أكتب عمودا يوميا، وأكتب الافتتاحية وأرأس مركز الدراسات وأشرف على صفحات الرأى، وكتبت بعض المقالات تعليقا على ما حدث للسفارة الأمريكية فى بيروت، وتعليقا على سياسات ريجان الرئيس الأمريكى، وهو ما اعتبرته السفارة الأمريكية فى أبو ظبى كتابة غير مقبولة، ثم كان أن أرسلت السفارة رسالة رسمية موقعة من السيدة «مارجورى آن رانسم» المستشارة الثقافية، وموجهة لرئيس التحرير تدين فيها ما أكتب وتعتبره إرهابا وتعبيرا عن عقد نفسية لدى الكاتب تجاه الولايات المتحدة إلى آخر ما جاء فى الرسالة التى قد يأتى يوم أنشرها بنصها فى «اليوم السابع» ومعها رد جريدة الخليج الذى جاء على صفحة كاملة!
وعدت لمصر، ثم عرفت أننى موضوع على القوائم غير المرضى عنها فى السفارات الأمريكية، ثم وعن طريق صديقى الغالى الراحل الدكتور أحمد عبدالله رزة، حاولت أن أجد سبيلا للحصول على تأشيرة، وأجرى هو اتصالاته ليخبرنى بأن أذهب إلى السفارة.. وهناك كان اللقاء الأول المباشر مع الأستاذ على درويش الذى يعمل فى الإعلام بالسفارة، والذى لم أكن أعرف لحظتها أنه من أسيادى الدراويش محبى الرسول وآل بيته الأطهار، واستقبلنى الرجل، وكما قيل، فإن شبيه الشىء منجذب إليه، وبسرعة حدث الائتلاف والتلاقى على الحب المشترك حب الرسول وآل بيته، وبدأت أحكى بعضا من علاقتى بالتصوف!.. كان اللقاء الأول وهو الأخير المباشر حتى الآن.
وأعود إلى مولد مولانا الإمام الحسين الذى تقام ليلته الكبيرة يوم الثلاثاء الأخير من شهر ربيع الثانى، ويعتبر فاتحة الموالد الكبرى فى مصر المحروسة كلها، وبعده يأتى مولد «ستنا السيدة زينب» أم هاشم الطاهرة.
وحكاية الموالد والأعياد فى مصر حكاية لها أول، وأرجو بحق جاه النبى وآل البيت والصحابة والتابعين والأقطاب الأربعة والعضرا ومارى جرجس وكل عباد الله الطيبين، أن لا يكون لها آخر!.. لأن هناك مؤشرات تظهر بين الحين والآخر تشير إلى أن هناك من لا هم لهم فى حياتهم إلا العكننة على أهل المحروسة وحرمانهم من أى تجليات طيبة تملأ وجدانهم وتفيض بها أنفسهم، وليكونوا كلهم نسخة من ذلك الذى يبث الفحيح من قسمات وجهه الغليظة المكفهرة القاسية، وتراه وقد أطال لحيته وملأت البثور والحفر جلده وتحولت أحباله الصوتية إلى ميكروفونات مزعجة، وهو آخذ فى الصياح والتهديد بالويل والثبور والجحيم لكل من أراد الشفاعة بالرسول الأعظم وكل من أحب آل بيته وكل من احتفى واقتدى بالأولياء الصالحين، وكل من اهتزت خلاياه للطرب والموسيقى والأصوات الجميلة حتى لا يصدق فيه قول جدنا الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوى، فيما هو يجيب على من سأله عن مشروعية السماع للموسيقى والغناء: «من لم يطربه غناء البلابل على الأشجار وعزف الأنامل على الأوتار فهو غليظ الطبع جلف حمار»!
عشت، ومازلت محبا لآل البيت وللموالد، وقد جاء على كاتب هذه السطور حينا من الدهر ترك فيه كل شىء ومضى حافيا، يلبس جلبابا قديما ويطوف مشيا مع المجاذيب والدراويش من مولد إلى مولد ومن دير إلى دير، وكنت إلى عهد قريب، حينما كانت الصحة تساعد، أبادر إلى خدمة المريدين فأرتب الأحذية والشباشب والبلغ - جمع بلغة - وأقدم العيش والفول النابت والدقة والجبنة القديمة والمش والفجل والكرات والجرجير، ثم يفتح الله على الجميع عندما تصل هراديم اللحم، فتسلق وتعتلى أناجر - جمع أنجر - الفتة ليجاورها صحون السلطة والطرشى البلدى.. ويأكل الجميع.. آلاف مؤلفة.. والأكل فيه البركة لا ينتهى وكأنه خمر عرس قانا.
عشت فى مولد مولانا أبى عبدالله الحسين لحظات من التجليات العلوية التى لا يمكن للكلمات أن تصفها، لأن ما هو فى نطاق الذوق والإحساس لا يمكن للكلمات أن تختزله.
إنها التجليات التى تجعل الدرويش يشطح، فينطق حروفا لا يفهمها سوى شاطح آخر والذكر معقود الحلقات بين شرعى وحفنى ورفاعى ونقشبندى خلوتى.. واسم الجلالة يحذف منه أداة التعريف «ال» ليصبح «آه» تتردد مع الأنفاس تعلو بها الصدور وتتيه الحناجر.. ثم يتردد اسم الحى «حى» «قيوم» وترى القوم سكارى، وما هم بسكارى يتمايلون حتى يصدق فيهم قول من ينشد فى الحضرة:
نسيم الوصل هب على الندامى
فأسكرهم وما شربوا مداما
ومالت منهم الأعناق ميلا
لأن قلوبهم ملئت غراما
ولما شاهدوا الساقى تجلى
وأيقظ فى الدجى من كان ناما
إلى آخر الإنشاد.. وما بين باك ينهمر الدمع سيالا على خديه وبين صائح هز كيانه من رآهم يحفون بالحضرة، وبين هائم صامت شكلا، ولكن كل خلاياه تنطق بما يهدر بداخله من عواصف إيمانية!
عشت أستمع للشيخ المنجد.. وللمبدع الجميل سيد النقشبندى الذى كان صديقا لأبى ودرويشا من العجينة نفسها، وعشت أقترب من أقدام حبيبى الشيخ محمد محمد ماضى الرخاوى، الذى أعادنى إلى الجامعة وإلى الحياة اليومية، ومازلت أذكر يوم أن فتحت له باب دارنا فى قويسنا عند مطلع الخمسينيات، فيما كان أبى يعمل مدرسا للغة العربية والدين بالمساعى المشكورة، وكنت طفلا فى السادسة من عمرى، وكان المطر غزيرا والأرض موحلة ودخل سيدنا الشيخ الرخاوى وعانقه أبى الذى همست له بأن القدم اليمنى للشيخ بدون «بلغة» - حذاء - وفور أن غسل قدميه من الطين سأله أبى:
«أين فردة البلغة يا مولانا؟»
فأجاب ضاحكا، وكان له ضحكة مميزة مجلجلة: «وأنا فى طريقى إليكم غرزت فى الأرض فأحسست أن الدنيا طمعت فيها.. فقمت سبتها - تركتها - لها.. كل واحد يطمع فى مقامه»!
وسمعت من مولاى الرخاوى قصته مع أبيه ومع سيدنا الحسين رضى الله عنه.. فقد كان أبوه عضوا فى هيئة كبار العلماء فى الثلاثينيات وكان كفيفا وهو من كبار عائلة الرخاوى فى هورين منوفية.. وكان الأب منقطعا للعلم والتأليف ومجاوره مولانا الإمام الحسين.. وذات يوم اكتشفت الزوجة أن الدار خالية من الزاد والزواد والفلوس.. وأرسلت ابنها محمد إلى أبيه فذهب إليه فى رواقه بالأزهر ونقل له الرسالة من أمه.. وإذا بالأب الكفيف يقول للابن: «اذهب الآن إلى سيدنا الحسين وصلِ ركعتين وقف عند بابه وأطلب منه ما شئت» ومضى الابن متعجبا، ونفذ ما أمر به ووقف أمام مقصورة ضريح مولانا وقال: «يا سيدنا الحسين أبويا باعتنى علشان أطلب كذا وكذا وكيت»، وكانت طلباته كلها هى طلبات المعيشة فى الدار.. وعاد إلى الدار، فإذا بأفواج من المريدين قد وصلوا للسلام على الرخاوى الأب ومعهم الزاد والزواد والفلوس، ولم تملك الزوجة الأم إلا أن تزغرد!!.. حكاها وكان يحكيها شيخى الرخاوى، وبكاؤه ممتزجا بضحكه.
وفى رحاب مولانا سيدنا الحسين عشت بعضا من أجمل أيام عمرى يوم أحببت وخطبت أم أولادى الدكتورة فاطمة صالح رحمها الله رحمة واسعة.. وكانت من مواليد درب القزازين فى الجمالية، ثم أقامت أسرتها فى البناية التى تلاصق مدخل شارع أم الغلام من ناحية سيدنا الحسين، وكنا من البلكونة نشاهد المشهد الحسينى ونمر عليه فى الذهاب والإياب، وأذكر عندما سألتنى عن مشروعية أن ألمس يدها ومازلنا مخطوبين وماذا سأستفيد؟ فلم أجد ردا سوى أن قلت متسائلا: ألا تذهبين إلى ضريح مولانا وتشاهدين الناس وهم يقبضون على معدن المقصورة ويلمسون الجدران ويقبلون الأعتاب.
سأذهب إلى الليلة الكبيرة ومن بعدها الليلة اليتيمة بصحبة صاحبى فى كل جولات من هذا الصنف صديقى الفنان سعيد فرماوى لنجول مشيا على الأقدام من وسط القاهرة، حيث مكتبى إلى العتبة الخضراء لنقف مؤدبين مستأذنين: هذا مقامنا منك يا ابن بنت رسول الله فهل تأذن لنا بتخطى العتبة لنقترب أكثر؟! ثم نمضى للزيارة والتجوال فى قاهرة المعز حتى يطلع الصبح.. وفى الليلة التالية نسمع الجميل البديع ياسين التهامى..
المساحة انتهت والمدد مازال واسعا متدفقا.. وكل مولد وأنتم بألف خير.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة