(1)
لو أنك تعرف محمد رمضان ضحية رحلة سانت كاترين المشؤومة ستعرف معنى الوجع الحقيقى، ولو أنك ترى تعليقات السخفاء والمرضى العقليين الذين يسخرون من زيارته هو وأصحابه إلى سانت كاترين، ويحملونهم مسؤولية رحلتهم الكارثية على طريقة «وهم إيه اللى وداهم هناك»، ستعرف أن الموت حقا يخطف أفضل مافينا.
الموت يخطف رمضان الذى يكتب على صفحته الخاصة «حبوا مصر أو اتركوها»، ولايقترب خجلا أو قرفا من المبرراتية ومطبلاتية الأنظمة الذين يرون أن أبلة فاهيتا جاسوسة، الموت يخطف محمد رمضان الذى حصد بفيلمه وفنه العديد من الجوائز المصرية والعالمية، ولا يقترب ربما طلبا للسلامة أو النظافة من وسائل إعلام، تسبح فى مستنقع الانحطاط وهى تنشر صور جثث ضحايا سانت كاترين دون مراعاة لحرمة الموت، أو حال الأهالى الذين لم ير أحدهم منظر وليده متجمدا من شدة البرد، أو لحرمة الفتاة المحجبة التى تناقلوا صورها وهى جثة ممدة مجمدة مكشوفا بعض من شعر رأسها بين الصخور والثلوج فى مشهد لن تمحوه الأيام من ذاكرة الأهل والأصحاب، الموت يخطف رمضان وهاجر اللذين شغلا أوقاتهما بخدمة الفقراء، ومراكز محو الأمية وتوزيع البطاطين على الغلابة والمحتاجين، ولم يقترب ربما خوفا من القىء والغثيان من هؤلاء الذين تركوا الجثث مجمدة فوق الجبل، وانشغلوا بمعركة الإجابة عن سؤال: هو الجيش وحش ولا حلو؟
(2)
بعد أن تقوم بتنظيف مشهد كارثة سانت كاترين من الهوى السياسى سترى خلاصته كالتالى:
- شاء من شاء وأبى من أبى.. تتحمل الدولة بكل أجهزتها المختصة مسؤولية ماحدث فى سانت كاترين، وماقد يحدث مستقبلا، هذه وظيفتها وهذا قدرها، ومن يرد أن يجادل فى ذلك، يعُد بنفسه إلى كتب السياسة والتاريخ ومن قبلهما سنة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن قبلهم جميعا إلى كلام المولى عز وجل فى قرآنه الكريم.
- تحرك الدولة بسرعة من أجل الإنقاذ– إن كان قد حدث فعلا كما تقول البيانات - ليس بطولة تستدعى التمجيد والتفخيم، كما أنه ليس مجهودا جبارا مضاعفا يستدعى الشكر والامتنان وقصائد المديح، لأن تلك وظيفتها ومهمتها فى هذه المنطقة تحديدا.
- تقاعس الدولة عن التحرك والاستجابة لمكالمات الاستغاثة، لأن الشباب ليس بينهم أجانب – إن كان قد حدث كما يدعى البعض- تحتاج إلى تحقيق حقيقى وسريع، إيضاحا لحقيقة تمنع الكثير من القيل والقال، وأى تأخر فى إظهار حقيقة ماحدث وماقيل فى هذا الشأن، سيظل بوابة مفتوحة للنيل من الدولة، لا يقدر أحد على إغلاقها.
- الحادثة أثبتت أن الإنسانية فى مصر أصبحت عملة نادرة، وأن الهوى السياسى قادر على تحويل البعض إلى وحوش مفترسة، تنهش وتأكل فى لحم أبناء الوطن الواحد دون خجل، مثل تلك الفئة التى استقبلت حادث سانت كاترين بتعليقات من نوعية «هم إيه اللى وداهم هناك»، و«يعنى إيه الشباب يطلعوا الجبل مع البنات لوحدهم»، و«هم يتحملوا مسؤولية نفسهم لأنهم طلعوا الجبل فى عز البرد».
- الإعلام فى مصر وصل لدرجة غير مسبوقة من التوهان والخصام مع كل ماهو انسانى، أو مدرج فى صفحات مواثيق الشرف، لدرجة أن بعض وسائل الإعلام نشرت صور جثث، وتسابقت على من ينفرد بنشرها أولا.
- تنظيم رحلات السفارى وتسلق الجبال على طريقة رحلات القناطر الخيرية ورضا المشاركين والمواطنين بسوء التنظيم وعدم توفير الأمان يجعلهم شركاء فى مسؤولية الإهمال.
(3)
مصر مبارك لم تذهب بعد ياعزيزى، لم تتغير أجهزتها ولم يتغير الطبالون الذين يصنعون إيقاع نفاقها، وأدعوك إلى أن تتأمل السطور القادمة، وتقارن بين ماحدث فى سانت كاترين وماحدث قبل 5 سنوات فى حلوان، مع الوضع فى الاعتبار ضرورة استبدال كلمة بنات حلوان بشباب سانت كاترين، وسلطة مبارك، بسلطة مابعد 30 يونيو، أو عدلى منصور، أو الببلاوى.. اتفضل.
كان الحادث مؤلما ويحمل من الدلالات ما هو أكثر إيلاما من فكرة الموت غرقا.. الضحايا 9 فتيات صغيرات، خرجن للبحث عن المتعة والترفيه.. فلم يحصلن لا على المتعة ولا الترفيه، لأن المركب غرق بعد خمسة أمتار فقط من بداية رحلته النيلية، بعض الجثث عادت ليجفف الأهل دموعهم فى أحضانها التى غير الماء ملامحها، وبعض الجثث مازالت فى بطن النيل بصحبة العرائس التى طالما أهداها الفراعنة لشريان الحياة المصرى، غير أن أهل فتيات مركب المعادى، لا هم فراعنة، ولا هم يرغبون فى أن يجعلوا من جثث بناتهن هدايا للنيل الذى خطفهن غدرا.
الحادث كان شبيها بما حدث فى عبارة السلام، مع فارق أن تلك سفينة وهذا مركب، وهذا نهر والآخر بحر، والضحايا هنا 9، بينما كانوا هناك ألفاً أوأكثر.. والفارق الأهم أن صاحب العبارة مليونير، وواصل، فهرب للخارج بينما صاحب المركب فقير، وبلا ضهر فذهب إلى السجن.. ومع كل هذه الفوارق بقيت الأسباب والنتيجة متشابهة إلى حد كبير.
العبارة طمع أصحابها فى المزيد من المال، وفى مركب حلوان أيضا طمع المراكبى الشاب فى المال، وطمعت الفتيات الصغيرات فى رفقة جماعية تضاعف البهجة، فركبن 19 على ظهر مركب لا يتحمل سوى 15 فردا بالعافية.
وبالنسبة للعبارة، لا يمكن أن نغفل أبدا دور الجهات الحكومية المعنية التى تقاعست عن مراقبة أمور السلامة والجودة والأمان على متن عبارة معروف جيدا أنها تلعب فى أواخر العمر الافتراضى، وذهبت أجهزة الإنقاذ متأخرة كثيرا، وفى مركب حلوان أيضا تقاعست نفس الجهات الحكومية عن مراقبة سلامة المراكب السياحية، ومدى توافر عوامل الأمان بها، وتقاعست شرطة المسطحات المائية فى القيام بدورها، وفى عمليات التفتيش الدورى على كل ما يسير على وجه النيل.
وبناء على ما تقدم من أسباب متشابهة، جاءت النتيجة متطابقة، ضحايا بالجملة كل ذنبهم أنهم غلابة، وصدقوا الدولة التى من المفترض أن تتكفل بحمايتهم، ضحايا فى عمر الزهور، وجثث ضائعة، وأشلاء تائهة بسبب جشع التجار والملاك، والموظفين المتقاعسين، والفاسدين، والمرتشين.. ومع ذلك لم يحصل واحد من هؤلاء على نصيبه من الجزاء.
أنا فقط أدعو لمحاسبة المجرمين الحقيقيين، أدعو لمحاسبة هؤلاء الذين تستمر الكوارث لأنهم مستمرون على كراسيهم، يزورون التقارير مقابل الإكراميات، ويسمحون للمخالف بالعمل، حتى ولو كان على حساب أرواح البشر، طالما هو يدفع بسخاء، أنا لا أقصر الحديث هنا على حادثى العبارة والمركب، ولكن على آلاف العمارات التى تسقط على الرؤوس لأنها بالرشوة أسست وارتفعت، وآلاف السيارات التى لا تؤهلها إمكانياتها أن تسير على الطرقات، ومع ذلك تهرول بلا حساب، لأن «أمين الشرطة» قبض المعلوم، وعشرات الطرق التى تهبط ويتدهور حالها، لأن المهندس المسؤول قرر أن يقبض من المقاول ثمن الصمت على المخالفات.. أتحدث عن منظومة كاملة تستحق العقاب، وعن ضميرنا الذى يرتاح لمجرد أن فردا واحدا قد تم تحميله الذنب منفردا، وذهب إلى السجن، أو إلى حبل المشنقة، بينما بقية العصابة مستمرون فى العمل، والاستمتاع بكل ما يحدث فى الخارج.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة