نزل السكوت فجأة على ما ذكره المستشار «هشام جنينة» رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من وقائع فساد مالية، وذلك فى مؤتمر صحفى تحدث فيه عن مليارات منهوبة، تحدث عن نهب 18 مليار جنيه فى «مشروع طرح النهر» و«3 مليارات فى «الحزام الأخضر» و2 مليار ونصف جنيه مخالفات بجهاز أمن الدولة.
انصرفت وسائل الإعلام عما ذكره الرجل عن المليارات المنهوبة، ركزت فقط على اتهامه بـ«الأخونة»، وشاهدنا بؤراً تنطلق منها قذائف صاروخية لا تتوجه إلى مستنقعات الفساد التى تكشفت، وإنما تتكلم عن أشياء عجيبة مثل أنه اضطر إلى ما قاله فى المؤتمر الصحفى لغسل ما لحق به من «أخونة»، وبعد إطلاق هذه القذائف حدث هدوء عجيب، وكأنه لم يحدث شىء على الإطلاق، وكأن «جنينة» تحدث عن شأن يخص بلدا آخر غير مصر.
فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، أذكر أن المجالس القومية المتخصصة أعدت دراسة هامة عن الفساد والاقتصاد الموازى، أى الاقتصاد غير الرسمى، وصكت الدراسة مصطلحا بالغ الأهمية وهو «علم الفساد»، مشيرة إلى أن «الفساد» فى مصر أصبح «علما» له قوانينه وأدواته، وله متخصصون يعرفون مداخله ومخارجه، وله رجاله الذين يكونون شبكاته، وتحدثت الدراسة عن أن شبكات الفساد تبدأ من ضم موظف صغير إلى مسؤول كبير، إن لم يكون هذا المسؤول هو قلب وصلب هذه الشبكة.
فى علم الفساد، يتم تطبيق أسلوب خطير وقت الكشف عن قضية ما، وهو اتباع مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، أى «هاجم، ثم هاجم، ثم هاجم»، حتى يضطر الذى يكشف عن الفساد الى الدفاع عن نفسه، والانصراف إلى معارك جانبية تشغل الآخرين على حساب جوهر وحقيقة الموضوع، وبالطبع ليس كل من يتورط فى قضايا فساد يستطيع إتقان هذه اللعبة، وضمان نجاحها.
لو عدنا إلى زمن مبارك، فسنجد قضايا فساد عديدة اتبعت نهج «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، وبعض الفاسدين نجحوا فى تعويم قضيتهم، إما بإلحاح إعلامى يؤدى فى النهاية إلى تخفيض سقف خطرها، أو تحويل بطل القصة إلى رجل تقوى وإيمان، فى مقابل اتهام الذين كشفوا القضية بأنهم إما حاقدين، أو يلعبون لصالح منافسين، ولنتذكر مثلاً رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى فى قضية قتل «سوزان تميم»، فبعد ساعات من كشف شرطة دبى عن القضية ودوره فيها، خرج «هشام» على شاشة التليفزيون المصرى يتحدث عن فكرة تأسيس «بنك الطعام»، وأن هذا البنك من شأنه أن يحل مشاكل حاجة الطعام لدى الفقراء، ولم يتوقف الأمر على الظهور مرة واحدة، بل تكرر كنوع من الإلحاح وصرف نظر الناس عن أصل الموضوع، لكن اللعبة لم تصمد، وتم القبض على «هشام»، لكن إعادة قراءة قضيته تعطينا ملمحا، وهو أنه كان هذا واحدا من التطبيقات العملية لما نتحدث عنه من «علم الفساد».
هناك قضايا فساد أخرى جرى فيها ما جرى مع قضية هشام طلعت مصطفى، ويلح على سؤال: «هل التعامل الصاخب مع ما كشف عنه هشام جنينة هو تطبيق لـ«علم الفساد»؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة