مقدمة لابد منها:
يحب القارئ المقال والكاتب الفطن الذى يقدم له فكرة مبتكرة أو تحليلا مختلفا أو زاوية أوسع فى الرؤية وهذا حق للقارئ على الكاتب والصحفى، وبنفس المقدار يحب الكاتب القارئ الفطن الذى يستطيع أن يرى ما بين السطور ويستلهم التلميح دون التصريح فى بعض المواقف ولا أستطيع أن أدعى أنى من بين من يمتلك الفطنة لكنى أتمنى أن يكون قارئى أكثر منى فطنة وقدرة على نفاذ البصيرة فيما أرصده له من أحداث.
هى بلاد بعيدة عنا تفصلنا عنها بحور وأراضى وجبال وأنهار، ولكن من قال إن البعد واختلاف اللغة والتاريخ وحتى الدين يحرم البشر من التعلم والتبصر بتجارب الآخرين وخاصة فى زمن العولمة.. أنها أوكرانيا تلك البلد التى يقع الآن أسمها على الصفحات الأولى للصحف وخبر أول فى نشرات الأخبار، كما أنها تمثل «هاش تاج» على تويتر للمصريين ربما ليستلهموا منها أو لأن البعض تزيداً يقول أنها استلهمت ثورتنا، وبغض النظر عن هذه الإشارات إلا أن حالة أوكرانيا تستدعى من المصريين جميعا أن يقرأوا عنها ويدرسوها علها تعلمهم وتبصرهم بمستنقع السياسية التى نعوم فيها ليل نهار.
أوكرانيا هى ثانى أكبر دول أوروبا الشرقية، وقد حصلت على استقلالها عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، وتتكون من 24 ولاية وجمهورية القرن المستقلة ذاتياً، وإحدى مدنها تضم أسطول البحر الأسود الروسى وتملك أكبر ثانى الجيوش الأوروبية.
والأهم من كل تلك المعلومات عن أوكرانيا أنها صاحبة أول ثورة ملونة، الثورة البرتقالية فى أواخر عام 2004 التى احتفى بها الغرب احتفاءً غير مسبوق وصارت نموذجاً يتعلمه آخرون، فماذا حدث بعد عشر سنوات من ثورتها الأولى؟.
ثورة ثانية وصراع مازالت تشهده العاصمة كييف واقتحام للقصور الرئاسية وطرد رئيس منتخب ولكن كلمة السر فى كل هذا هى صاحبة الضفائر الذهبية أو المرأة الحديدية الأوكرانية أو أميرة الغاز، فكلها ألقاب ليوليا تيموشنكو.. أنها حكاية إمرأة وسيدة أعمال وسياسية وثائرة تلخص لعبة السياسة القذرة فلا تصدق أيها المواطن أنها لعبة تجمع الشرفاء إلا قليلاً.
يوليا تيموشينكو سيدة جميلة فى الخمسينات من عمرها درست هندسة واقتصاد، بدأت حياتها بسلفة هى وزوجها عبارة عن 5000 روبل فى مجال تأجير شرائط الفيديو ولكنها مع تفكك الاتحاد السوفيتى دخلت وزوجها أيضاً فى مجال الطاقة حتى أصبحت تسيطر على %20 من إجمالى الناتج القومى الأوكرانى فى هذا المجال وجمعت ثروة بالمليارات دفعت مجلة فوربس لأن تضعها بين قائمة أغنى مائة شخص فى العالم، وكأغلب أهل المال فى العالم مالهم لا يكفيهم عن السلطة ويتمنون الحفاظ عليه وتنميته بالسلطة السياسية، اتجهت يوليا إلى السياسة كأغلب أغنياء أوكرانيا ورشحت نفسها فى انتخابات البرلمان وفى أقل من أربعة أعوام من ممارستها العمل السياسى صارت نائبة لرئيس الوزراء ولكن للحكاية بقية.
فمن تصاريف السياسة وليس القدر أن يوليا تيموشينكو التى منحوها لقب صاحبة الثورة البرتقالية، هى ورفقاؤها فى الثورة تفرقت بهم السبل وصاروا أعداءً ودخلت هى السجن بتهم التهرب الضريبى وقضايا فساد مالية، وتم اتهام زوجها بتهم تبييض أموال فى الولايات المتحدة وظل هارباً لعامين، وصرحت يوليا وقتها أن اتهام زوجها انتقام سياسى منها.
مسيرة يوليا تصلح خامة لفيلم سينمائى أو فيلم شديد الواقعية فى عالم السياسة، فقد اتهمتها آنا جرمان نائبة رئيس حزب الأقاليم أنها تستخدم السحر الأسود للتأثير على الناس، وتدخل يوليا السجن للمرة الأولى بتهمة تضخم الثورة ولكنها تخرج منه بعد شهور لتصبح أقوى مما كانت، ثم تصبح رئيسة وزراء ثم يطاح بها، ثم تعود ثانية رئيسة للوزراء ثم يُطاح بها ثانية للسجن، ثم تثور كييف على رئيسها لتخرج يوليا من السجن ثانية كجزء من اتفاق بين الرئيس المنتخب المعزول يانوكوفيتش وبين المعارضة والاتحاد الأوروبى، وتذهب يوليا للميدان فى مشهد سينمائى على كرسى متحرك تخطب فى المعتصمين وتطالبهم بعدم ترك الميدان.. هذا حتى الآن.
حكاية يوليا تيموشينكو ليست حكاية مجرد امرأة أنها حكاية صراع بين الغرب الذى يؤيدها ويرى فى ثورتها البرتقالية صنيعة وبين الدب الروسى الذى لا يستطيع التخلى عن أبنائه من الدول التى كانت جزءا منه.
حكاية يوليا تيموشينكو ليست مجرد حكاية امرأة أنها حكاية المال والسلطة واحتياجهما لبعضهما البعض كحبل الوريد.
حكاية يوليا تيموشينكو ليست مجرد حكاية امراة ولكنها حكاية رفقاء كفاح ضد ديكتاتورية ومطالبة بالحرية فماذا فعل بهم الزمن وماذا فعلوا به.
حكاية يوليا تيموشينكو ليست مجرد حكاية امرأة تتقلد لأول مرة فى بلد منصب رئيس وزراء ولكنها حكاية السياسة اللعبة التى لا يمكن أن يدعى عامة الشعوب أنهم يعرفون خباياها لأن أغلب تفاصيلها خلف الأبواب، رغم أن الشعوب هى الفاعلة والمفعول بها.
أيها القارئ الفطن لا تظن أنى أدعوك للكفر بالثورات، ولا تظن أنى أدعوك للتنحى عن السياسة لأنها لعبة خلف الأبواب، ولكنى فقط أدعوك لأن تكون كما قال محمد رسول الإنسانية «المؤمن كيّْسٌ فطن»، فكن مواطناً كيّْساً فطناً واستفد من التجربة الأوكرانية فهى بالتأكيد أفضل للتعلم من تجربة عادل إمام الدنماركية.