د. محمد على يوسف

كى لا تُنزع من الدعوة روحها

الخميس، 06 فبراير 2014 08:12 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لما صنف الإمام مالك صاحب المذهب وإمام دار الهجرة كتابه الموطأ، دعاه الخليفة أبوجعفر المنصور وقد أعجبه الكتاب فلما أتاه الإمام قال: إنى عزمت أن آمر بكتابك فينسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث، فإنى رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. إنه عرض قد يسيل لأجله لعاب المعجبين بأنفسهم والمتعصبين لأقوالهم والذين لا يجدون حرجا فى إجبار الخلق على آرائهم بمبدأ «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد»، لكن الإمام مالك رحمه لم يقبل هذا العرض بل رفضه رفضا قاطعا، وأبى أن يُفرض فكره بالجبر أو أن يُكره الناس على اجتهاده بقهر السلطان.
الأصل أن الدعوة ينبغى أن تنبع من قلب الداعى وأن يحدوها إحساسه وتزينها مشاعره ويكللها انفعاله بما يقول وتأثره بما يدعو إليه ومعرفته بطبيعة المتلقين وما يحتاجون إلى سماعه وأن تناسب مادته الدعوية مع فكرهم وظروفهم وثقافتهم والأحوال التى يعيشونها هو ما يعطى الدعوة حياتها ورونقها وحسن تأثيرها بعد فضل الله وفتحه وتوفيقه ولقد قيل فى الأثر: ما أنت بمحدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
إن الخطيب والداعى ليس مجرد آلة تنفذ ما يطلب منها بروتينية وبيروقراطية رتيبة، ولكنه إمام وموجه ومصلح ينبغى أن تكون له إرادة ورؤية ومساحة من الإبداع والاجتهاد.
وقرار إملاء الخطبة على الدعاة وفرض موضوعاتها وعناصرها عليهم ليس فقط قتلا للموهبة ووأداً للاجتهاد والرأى، ولكن الأخطر أن هذه الفكرة تعد إفراغا للمعين الدعوى الأسبوعى -الذى يعد عند كثير من الناس المصدر الرئيسى للتلقى الدينى والموعظة والذكرى التى تنفع المؤمنين- من محتواه الأهم ألا وهو الشعور والانفعال الصادق بما يقوله الخطيب والإحساس بالناس والتفاعل مع احتياجاتهم ومشكلاتهم والقاعدة تقول «ما كان من القلب وصل إلى القلب».
لا ينبغى أبدا أن يتحول الخطيب والداعية لمجرد بوق للسلطة أو موظف يؤدى مهمة جافة يتلقى مقابلها راتبا ويقوم بها من الألف إلى الياء بتعليمات وتلقينات من غيره فتخرج فاترة باردة وربما ميتة لا حياة فيها ولا نبض. ولمصلحة من هذا الاختلال الموازينى بين إطلاق كامل لحريات أهل الفن والفكر وتحصين لهم من خلال الدستور الجديد فى مقابل مزيد من التقييد والتكبيل للدعاة والمصلحين. قد يكون مفهوما أن يتم وضع ضوابط ومعايير وأُطُر تساعد على صيانة مهابة المنبر وصواب المادة المطروحة وتراعى المستوى العلمى والفكرى اللازم لمن يعتليه ويحاسب من يخل بتلك الضوابط أو يستعمل المنبر لمصلحة شخصية أو حزبية. وقد يكون مفهوما أن تتاح خطب جاهزة للأئمة الذين لا يستطيعون التحضير لخطبهم بشكل جيد ويكون ذلك على سبيل التخيير. لكن أن تلزم الجميع وتفرض عليهم ما يقولون وتعاقبهم إن اجتهدوا أو أبدعوا أو تحدثوا بما يناسب حال واحتياجات من أمامهم فهذا ما لا يمكن فهمه ولا ابتلاعه ويعتبر نوعا من فرض الوصاية على الكلمة بشكل لن يؤدى إلا إلى تجفيف الدعوة وتفريغها من قيمتها وروحها وتحويلها إلى مجرد واجب روتينى ثقيل الغرض الانتهاء منه والسلام.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة