فى مقدمته الهامة لكتابه الجميل «عولم خانة» يكتب الصديق أكرم القصاص: «عزيزى الذى هو أنا وأنت وهم وهن وهؤلاء، نعيش فى هذا العالم، وسوف نموت فيه دون أن نعرف ماذا سيكون فى الغد، لكننا نتخيل كل شىء، بعد أن أصبحنا نشترى الشمس فى زجاجات، والهواء فى معلبات، ومنا أجيال عاصرت زمن الأبيض والأسود عندما كان التليفزيون قناتين تبثان لساعات قليلة وتغلقان لتترك الناس ينامون».
يمضى «أكرم» فى مقدمته: «سوف تعجز كمواطن عوالمى عن التفرقة بين الإعلام والإعلان، أو بين الحق والباطل، وكل ما سوف تكسبه هو إنفاق ما فى جيبك على مكالمات زائدة أو لشراء سلع لست فى حاجة إليها، وعلى أفضل الأحوال مقابل دقائق سيقولون لك عنها مجانية، هذا العالم يقوم على تسويق السلع والبشر والاختراعات والمنظفات، ووصفات غير مفيدة».
هى مقدمة «ساخرة» عن «قضية جادة»، وهذا هو عهدنا من «أكرم» فى كتاباته الساخرة التى توج فى إحدى مراحلها بجائزة نقابة الصحفيين، بتحكيم من رائد للكتابة الساخرة «أحمد رجب»، وما أدرانا بأن يكون هذا الكاتب العظيم هو من يكتب شهادة الجودة لـ«أكرم» فى هذا المجال من الكتابة التى أصبح نفرها شحًا فى عددهم، وقيمتهم، ودائما تكون الشكوى والمشكلة فى أن آباء الكلمة قد لا يجدون أبناء، لكن أكرم هو فى البدء ابنا للكبار فى هذا المجال مثل محمد عفيفى ومحمود السعدنى، وإذا كان هؤلاء لهم سماتهم الخاصة فى كتابتهم الساخرة، فإن أكرم استطاع أن تكون له لغته الخاصة التى استفادت من الرواد، لكنها لم تقع أسيرة لأحد، مما أخرجه من المقولة الجهنمية: «الأصل حقيقة والصورة تقليد».
وإذا كان الرواد لم يحالفهم الحظ، بالاستفادة من أدوات استفادت منها الأجيال التالية، مثل الإنترنت، وعوالمه الكبيرة، والفضائيات وسحرها السارق، إلا أن الحقيقة تبقى فى قدرة هذه الأجيال الجديدة فى كتابتها الساخرة على الاستفادة مع الأدوات الحديثة، ومن هنا تأتى قيمة أن تجعل هذه الأدوات الكاتب أسيرا لسحرها، أو تجعله قائدا يستطيع الالتقاط منها دون الوقوع تحت تأثيرها، والتعامل على النحو الأخير يجعل الكاتب مبدعا فى مجاله، وليس ناقلا تابعا، وهذا ما يفعله «أكرم» فى كتاباته المتعلقة بذلك، هو يلتقط ولا يكرر، ولأنه كذلك فهو يسخر مما يستحق السخرية، ويجعل من أصعب القضايا مادة طيعة بقلمه تقودك إلى معرفة وجهها الآخر الذى يجعلنا نضحك فى عز حالات النكد.
كان لـ«أكرم» صفحته الثانية فى جريدة «العربى» التى تزاملنا فيها سويا أيام كانت صحيفة، التى يقلب فيها المواجع على المسؤولين، ومن يستحقون أن يتم إوجاعهم، ولأن الوجع يأتى بسخرية، كان المفعول أقوى، ولأن المسؤول لا يحب إلا أن يظهر بصورة، الجاد، الحازم، الملتزم، القوى، النابه، الذكى، فقد كان يتوجع من تحويل كل هذه الصور «الزائفة» إلى سخرية مضحكة، ولهذا ظلت الصفحة الثانية فى «العربى» سوطا، وروحا، ونكتة، فكان القارئ يتلقفها بمحبة وشوق.. وغدا نستكمل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة