بات "سد النهضة" حقيقة واقعية، خصوصاً بعد إعلان وزير الطاقة الإثيوبى الانتهاء من 30% من بنائه، وإعلان وزير الرى المصرى فشل المفاوضات نهائياً مع إثيوبيا، وبذلك أصبح السد يمثل خطراً يهدد مستقبل مصر المائى، الأمر الذى وصفه الدكتور محمد عبد المطلب، بأن مصر دخلت بقوة عصر "الفقر المائى"، مشدداً على أنه لابد من ترشيد الاستهلاك لتلبية احتياجاتنا لكافة الأغراض، سواء الزراعية أو الصناعية أو مياه الشرب، من خلال برامج التوعية بمخاطر الإسراف فى استهلاك المياه، مما يؤكد أن بناء السد أصبح أمراً واقعاً يهدد حياة المصريين.
لو نظرنا إلى الماضى قليلاً لوجدنا أن بناء ذلك السد ما هو إلا نتيجة طبيعية لتعامل الحكومات المتعاقبة الخاطئ مع دول الحوض الأفريقى، ونتاج سنوات من الإقصاء والتجاهل، مما جعل هذه الدول، خاصة إثيوبيا، قنابل موقوتة فى القارة الأفريقية، وأرضاً خصبة لبعض الدول التى تسعى لتحقيق أغراضها الاستعمارية، حتى بدأت إثيوبيا استخدام لغة القوة، وهو ما ظهر جلياً فى تصريحات بعض قادة الجيش الإثيوبى، والذين أكدوا استعدادهم لـ"دفع الثمن" للحفاظ على مشروع سد النهضة، معتبرين إياه مشروعاً قومياً.
وبدأت مشكلة السد الإثيوبى خلال حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فبعد أن تطورت علاقات مصر بدول أفريقيا أثناء حكم "ناصر"، الذى حرص على دعم حركات التحرر من الاستعمار فى عدد من هذه الدول، ونتيجة للاتفاق السياسى، لم تشهد مصر خلافاً على قضية المياه، خصوصاً أنه كانت تجمع الرئيس المصرى جمال عبد الناصر والإمبراطور الإثيوبى هيلا سلاسى علاقات قوية، ورغم فترة الوفاق تلك، سرعان ما نشبت الخلافات بين البلدين، على خلفية قيام مصر ببناء السد العالى دون استشارة دول المنبع، وهو ما عارضته إثيوبيا بشدة.
ثم عادت الأزمة لتطل برأسها من جديد فى عهد "السادات"، بعد أن أعلن الرئيس الراحل عن مشروع لتحويل جزء من مياه النيل لرى 35 ألف فدان فى سيناء، وهو ما رفضته إثيوبيا، باعتباره خطراً يهدد مصالحها المائية، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية فى ذلك الوقت تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل، واحتدم الخلاف إلى حد تهديد الرئيس الإثيوبى فى ذلك الوقت ''منجستو'' بتحويل مجرى نهر النيل، ليرد السادات بأن مياه النيل ''خط أحمر''، وأن المساس بها مساس بالأمن القومى المصرى، ملمحاً باستخدام القوة لضمان الأمن المائى، معلناً أنه سيدمر السد بالطائرات، بمجرد بنائه، دون اعتبار لأى أمور أخرى غير مصلحة مصر.
ولم يختلف "مبارك" عن سابقيه إلا فى إهماله تلك الدول، خاصة بعد محاولة اغتياله الفاشلة بأديس أبابا عام 1995، أما عن إنشاء سد على نهر النيل، فأكد مبارك أنه سيقيم قاعدة طيران فى السودان لتدمير ذلك السد، بمجرد بنائه.
ولا يخفى على أحد تلك الفضيحة الشهيرة فى عهد "مرسى"، عندما عقدت رئاسة الجمهورية اجتماعاً مع مجموعة من السياسيين، لمناقشة خطورة أزمة السد الإثيوبى على الأمن القومى المصرى، وأذاعته على الهواء مباشرة، وشاهد العالم، ومنهم إثيوبيا، آراء الجانب المصرى ومقترحاتهم للتعامل مع الجانب الإثيوبى، وكذلك الخطط العسكرية لتدمير السد، وإثارة القلاقل فى إثيوبيا، حتى وصل بأحدهم لاقتراح مساعدة بعض حركات التمرد لإضعاف الحكومة الإثيوبية، وطلب آخر من الحضور القسم على عدم تسريب وقائع ذلك الاجتماع للصحافة، حتى فوجئ وغيره من الحاضرين بأن الاجتماع يتم نقله على الهواء مباشرة من القصر الرئاسى، والأغرب مما سبق كان رد فعل مرسى وجميع الحضور، عندما تعالت ضحكاتهم عند انكشاف تلك الفضيحة، موضحين أنه خطأ غير مقصود من الدكتورة باكينام الشرقاوى مستشار الرئيس وأحد القائمين على تنظيم المؤتمر.
حتى جاء "الببلاوى" مفجراً مفاجأة من العيار الثقيل، حينما صرح بأن سد النهضة يمكن أن يكون مصدر رخاء للدول المحيطة , خاصة أن إثيوبيا ليست فقيرة فى المياه، بل لديها فائض مائى، صادماً بتصريحاته تلك جموع الشعب المصرى وحقوقه من مياه النيل، مناقضاً تقرير اللجنة الثلاثية الدولية بشأن الآثار الخطيرة لهذا السد، والذى أكد أن السد "كارثى" ولو بنى سيبنى على جثث المصريين.
فكانت فكرة بناء سد على نهر النيل، وتحويل مجرى النيل الأزرق، وإعادة توزيع نسب مياه النهر على دول المنبع والمصب، تراود دول الحوض الأفريقى، خاصة إثيوبيا، إلا أن التعامل القوى، والتهديد باستخدام القوة مع تلك الدول حال دون تنفيذ تلك الفكرة على أرض الواقع، حتى نجحت إثيوبيا فى استقطاب معظم دول الحوض الأفريقى، وشرعت بالفعل فى بناء السد، خاصة بعد ثورات الربيع العربى وانشغال الحكومات بمشاكلها الداخلية، مما حدا بنا للجوء للحل الدبلوماسى، وآخرها جلسة التفاوض لدول حوض النيل الشرقى "مصر والسودان وإثيوبيا"، والتى استضافتها العاصمة السودانية الخرطوم، يومى 4-5 يناير الماضى، والتى فشلت فى تقريب وجهات النظر حول المسائل الخلافية العالقة بشأن السد، وبات الحديث ملحاً حول ما تمتلكه مصر من خيارات استراتيجية لحل تلك الأزمة التى تمس أمنها القومى، فكان إعلان إثيوبيا تحدى دولتى المصب "مصر والسودان" وإصرارها على بناء السد نتاجاً طبيعياً لذلك التجاهل والإقصاء طوال تلك السنوات.
أما عن موقف السودان، وهو الحليف الأقوى بالنسبة لمصر فى ملف حوض النيل، فنجد أنه بدا متذبذباً، فما لبث أن رأينا إعلان السفير السودانى بالقاهرة رفض بلاده بناء مشروع السد، حتى جاءت تصريحات وزير الخارجية السودانى مشابهة لتصريحات الببلاوى، وعدم ممانعة بلاده بناء السد الإثيوبى، مشيراً إلى أن السودان يمكنه الاستفادة من ذلك السد بتوسيع رقعته الزراعية واستثماره فى توليد الكهرباء، فجاء موقف السودان استسلاماً للأمر الواقع، ونتيجة لفشل التوصل لحل دبلوماسى مع الدولة الإثيوبية، والسياسة الخاطئة فى التعامل مع الملف، فأرادوا تحقيق أكبر المكاسب، بعدما تأكد أن بناء السد أصبح أمراً واقعياً.
وجاءت تصريحات بعض قادة الجيش الإثيوبى، والذين أكدوا استعدادهم لـ"دفع الثمن" من أجل الحفاظ على مشروع سد النهضة، مؤكدين أنه يعد مشروعاً قومياً، ويمثل أحد أهم مكتسبات الشعب الإثيوبى، حسب قولهم، لتؤكد لنا أن الدولة الإثيوبية لم تعد ضعيفة وأنها لم يعد تخشى الرد العسكرى، فكانت لهجة الخطاب الإثيوبى لم نسمعها من قبل، ولم نعهدها طوال تاريخ شروع إثيوبيا فى بناء السد، مما يؤكد أن هناك دولا لها مصالح سياسية واقتصادية، مثل "إسرائيل"، تسعى لتحقيق أغراض استعمارية على حساب مصر، فكان التقارب الإسرائيلى الإثيوبى، حيث تعانى إسرائيل نقصاً حاداً فى مصادرها المائية، فى الوقت الذى تسيطر فيه إثيوبيا على 85% من مصادر مياه النيل، وتشكل المنبع الأساسى والمصدر الأهم لها، فكان موقع إثيوبيا الاستراتيجى هدفاً رئيسياً للدولة الصهيونية لتحقيق أغراضها المائية فى دولتهم المزعومة من النيل إلى الفرات.
وإذا كانت حكومات ما بعد الثورة قد تراخت فى استخدام القوة مع هذه الدولة، وإظهار حجمها الحقيقى، فلم يعد الوقت مواتياً لاستخدامها، فكان لابد من تجديد الحل الدبلوماسى، والذى لا يعرف الفشل، ومراعاة أن التدخل العسكرى الذى ينادى به غير العقلاء لم يعد يجدى مع تلك الشعوب، فالزمان قد تغير وكل الدول بدأت تسعى لتكوين تحالفات مع الدول العظمى، فنجد أنه كثيراً ما دعت إثيوبيا لمشاركة دولتى المصب "السودان ومصر" للمشاركة فى مشروع بناء السد، ومشاركة الدول الثلاث الاستفادة من توليد الكهرباء والإشراف على بناء السد، فى الوقت الذى يحذر فيه مجموعة من المتخصصين مما وصفوه بتداعيات شديدة الخطورة على مصر والسودان، وكذلك دول الخليج، مؤكدين أن السد يقام فوق منطقة زلازل وبراكين، وبمواصفات هندسية تجعله يؤدى إلى إحداث تغييرات فى الفوالق الأرضية، مما سيؤدى إلى إحداث زلازل مدمرة فى كل من اليمن والسودان ومصر، والسعودية، وسيدخل كل الدول العربية فى بؤرة زلزالية، فلم لا نجدد تلك المفاوضات، خاصة أننا نمتلك مجموعة من العلماء المتخصصين فى ذلك المجال، مع التركيز على ضرورة تقليل سعة وزيادة سنوات ملء الخزان، الأمر الذى ربما نجد مرونة من الجانب الإثيوبى حياله، مقارنة بمنع بعض الكوارث التى ربما يخلفها السد فى حال انهياره.
ربما حانت ساعة الحسم لنلتفت إلى القضايا الحقيقية التى تهدد مستقبل المواطن المصرى وأخطرها سد النهضة وغيرها من الملفات الملحة، كالتعليم والصحة وغيرها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة