قد يكون العنوان صادما أو غريبا، لأن الإقصاء بطبيعته فعل عنيف، وقد يكون أيضاً فعلا خسيسا، ولذلك يجب عدم إقرانه بالفن!! ولكن الجديد فى الحالة المصرية الآن أنه أصبح فناً، فنحن نكره أدوار الشر على الشاشة وقد نحتقر مؤديها أثناء مشاهدتنا للفيلم، لكنه يظل فناناً وقد يفوز بمفرده بجائزة الفيلم، ويحظى بتقدير المتفرجين وأيضاً صناع الفيلم!!
نلاحظ منذ ثورة 30 يونيو درجات وموجات متعددة من الإقصاء، قد يكون بعضها ممنهجا والبعض الآخر عبثى، الجميع فى مواجهة الجميع، الكل يريد إقصاء الكل من المشهد ليظهر منفردا ويغرد بما يشاء، ثورة اشترك فيها الملايين من كل الألوان الشعبية والسياسية، فيتم استخدامها لقهر ثورة 25 يناير وتشويهها، ثورة كان فى طليعة قادتها رموز شاركت فى ثورة يناير فنجد الستارة تفتح بعد نجاحها عن عدد لا بأس به من الأفاقين، وحملة المباخر ومنافقى كل نظام، ثورة قامت لتحرر مصر من افة الأخونة فنجدها فجأه تتحول لصيد فى يد من احتكروا المشهد السياسى فى ظل وجود مبارك، واغتالوا الحريات، واستمرأوا المكاسب والثروات على حساب هذا الشعب المنهك، تجد رموزا لحزب دمر الحياة السياسية فيما قبل يناير وقد اعتمدوا تزوير الانتخابات منهجا، يختالون على شاشات التليفزيون، ويكيلون الاتهامات لكل من ثار عليهم، وكانت كل جريمته أنه ينشد الحرية لوطنه، القادمون من خلف غياهب نظام مبارك السياسى يمارسون درجات متعددة من الضغط والتشويه، لإقصاء كل من نادى بالحرية، تجار مقاعد البرلمان والذين كانوا ينجحون بأساليب كلها خسة ووضاعة، يمسكون بميكروفونات بعض الإعلام الذى يرجع منشأه لنفس النظام، ويشوهون كل من سولت له نفسه أن يقول إن مصر وطن يستحق حياة أفضل، وأن العيش والحرية والكرامة الإنسانية حق لكل مصرى شريف على هذه الأرض، حاله إقصاء فريدة من نوعها، ثورة تستخدم لإقصاء الأخرى، وهذا هو الإعجاز فى ذاته!!
صوره أخرى من صور الإقصاء الآن تحدث بشراهة وتصاعد، وهى أن يزاح كل إعلامى له رؤية مختلفة، أن يخنق ويدنس كل صوت مغاير، بعض الإعلام الذى ظل فى وصله تمجيد ليناير لمدة سنتين، انقلب عليها فجأة، المذيعون والمذيعات نجوم الشباك للثورة الأولى، أصبح إقصاؤهم واجباً وقربانا لخبث من يستخدم الثورة الثانية لمصالحه، الكتاب والصحفيون الذين بنوا مجدا فى يناير، لابد من إقصائهم لصالح يونيو!! أيضا لا تخلو الصورة من طرفة بعض الإعلاميين الذين يلعبون على كل الأوتار، ويتلونون مع كل قوس قزح جديد يطل برأسه على الحالة المصرية، كانوا مباركيين، ثم تنيروا، ثم بعضهم تأخونوا، ثم عادوا مباركيين لقواعدهم الأولى، وكأن اعتناق فكر ومبادئ الثورات لهو من سبيل الترويح عن النفس والنزهة الأخلاقية!!
مشهد الإقصاء الآخر الجدير بالبحث والدراسة، وربما التندر والتفكه أيضا هو مشهد، يقوم فيه (ضعيف النفس) بتهميش دور كل الشباب الذين ساندوا ودعموا ثورة يناير، بعد أن كان يساندهم بل ويتودد لهم ويحتمى بثوريتهم، ويضعهم فى الصفوف الأولى، يهمش جيلا كاملا أراد الحرية وواجه الموت، ليس لسبب إلا أنهم مختلفون عنه، دماؤهم حرة، رؤوسهم مرفوعة، يحترمون الغير بدون تكلف أو مذلة، لا يجيدون فن العبودية التى امتهنها البعض ممن نال حسنات نظام مبارك، هو طبعا لا يستطيع مواجهتهم لكنه يتعامل بمبدأ الإهمال، يهمشهم ويبعدهم تماما عن كل نقاط التأثير، يقطع كل خطواتهم نحو النجاح والإنتاج، يريد أن يطمس يناير فيهم، يريد أن يقول إن الماضى كان ناجحا، وإن حاضر الثورة فشل وفشلة، يريد أن يشعر أنه ليس عبدا، فيهمش الأحرار ويقصيهم، حتى يتجول وحده وسط بيئة يألفها ويعتادها دون أن يعترض طريقه من يذكره بأن الحرية تاج لا يستحقه إلا الأعزة الأقوياء، تجد هذه الصورة حاضرة الآن فى كثير من المؤسسات والشركات وفى كل القطاعات التى تتناحر فيها قوى المجتمع فى صراع بين (قديم) مذبوح بسكين ثورة يناير، و(جديد) طامح لإكمال ثورته بالعمل والانتاج والنجاح.
مشاهدالإقصاء فى أيامنا الحاضرة كثيرة ربما بعضها مدموغ بخاتم سياسى، فكل من ارتبط اسمه بما ثار الشعب عليه فى 25 يناير، يريد أن ينفض ملابسه من العار الذى لاحقه لمدة عامين فينظف نفسه بفرشاة 30 يونيو !! كل من أجلسته ثورة الأحرار فى منزله، يعود ليفترس كل من شق طريق الحرية والنضال، بإلصاق التهم وتشويه ثورة الشعب وقولبتها فى مؤامرة كونية كبيرة تم استخدام المصريين فيها وكأنهم دمى، فى تسفيه لقوة وعقلانية هذا الشعب الذى يملك من فطرة الذكاء الكثير، خرجت التعابين القديمة من شق صنعوه واستخدموا فيه ثورة يونيو على عكس إرادتها لينفثوا سمومهم فى الجميع، وينتقموا من الجميع، يريدون إقصاء كل من يحمل بذور الثورة والحرية، يتندرون ويسفهون من حقوق الشهداء، يأخذونك لحوارات ضيقة من إعادة تعريف كلمة الشهيد! يستخدمون فزاعة الأخوان كما كان يستخدمها مبارك، ولكن هذه المرة لتخوين الثورة وتخوين الشباب، إننى على يقين أنه لن يصح إلا الصحيح، ولن تعود دولة مبارك، ولكن أذنابها مازالت تنتقم وتقصى وتخون، ولابد من اليقظة حتى لا نجد فى لحظات ما نبنيه من نظام سياسى هو فقط ظل لنفس النظام الذى ثار الشعب عليه ثورتين متكاملتين.