قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يمنعّن أحدَكم مخافةُ الناس أن يقول بحق إذا علِمَه».
لستُ مرشحا رئاسيا ولا نيابيا لِأُضطرَ لنفاق الجموع (والعاملين فى صدارتهم)، كما أن الثمن الذى دفعتُه (ولا زلتُ) دفاعا عن حقوقهم فى وجه ظالميهم وسارقى قوتهم قد يشفع لى عندما أنتقد انحراف بعضهم عن الحق والصواب.
أقول قولى هذا وقد قرأتُ للتوّ أن السيدة وزيرة القوى العاملة قد نجحت فى فضّ إضراب العاملين بإحدى الشركات الكبرى بعد أن تم إقناع المسؤولين بالاستجابة لمطالبهم ومن بينها تعيين أبناء العاملين (لم أشأ أن أذكر اسم الشركة لأن الأمر لم يعد مقصورا عليها وإنما شاع كالوباء فى العديد من الشركات والمؤسسات العامة). فلنُسمِّ الأشياء بأسمائها الصريحة دون خوف أو مجاملة.. تعيين أبناء العاملين ليس من المطالب المشروعة.. فهو باطل قانونا وحرام شرعا، وإذا استُجيب له تحت ضغط إضراب أو اعتصام فكل ما يترتب عليه هو سحت يدخل فى جوف المستفيدين منه إلى يوم الدين، وليس من حق أى مسؤول أن يتفاوض من حيث المبدأ على مطلب غير دستورى يغتصب حقوق التسعين مليون مصرى (ونتساءل بعد ذلك لماذا قلّت البَرَكة؟).
كنّا نقاوم محاولة مبارك لتوريث الوظيفة الأولى فى الدولة لابنه، بينما كانت ثقافة التوريث الفاسدة تنتشر بسلاسة بين فئات الشعب وكأنها حلال، إلى أن وصل الأمر إلى أن يُعلن أحد الوزراء السابقين أنه خصّص 30% من الدرجات الوظيفية المتاحة داخل وزارته لأبناء العاملين فى الوزارة، مبررا ذلك بأن أبناء العاملين عندما يتم تعيينهم سيعولون آباءهم وهذا يُعد تكريما للآباء الذين أفنوا 30 عاما بأروقة الوزارة (!).
ومن المضحكات المبكيات أننى التقيتُ منذ أسابيع شابا من الموظفين الإداريين بإحدى المؤسسات الأكاديمية اسمه محمود، أخبرنى بفخر أنه قاد وقفة احتجاجية لزملائه لتنفيذ مطالبهم وعلى رأسها تعيين أبناء العاملين.. وخلال الحوار عرفتُ أن أباه كان مديرا للحسابات فى نفس المبنى قبل ثلاثين عاما ثم قام بتعيين زوجته (أم محمود) معه، وقامت هى بدورها بتعيين أخواتها الأربع (خالات محمود) وابنتيها (أختىْ محمود)، فلما شبّ محمود عن الطوق تم تعيينه (طبعا) ثم تعيين زوجته.. وقد خرج أبو محمود إلى المعاش منذ شهور تاركا خلفه فى ذمة الحكومة فى المبنى الإدارى تسعة من عائلته والمنتسبين لها، لم يتم تعيين أى منهم بمعيار الكفاءة وإنما بعيار (الأقربون أوْلى).. وقد عرفتُ من محمود أن حربا عائلية ضروسا تدور رحاها الآن بعد أن قلّت الدرجات الوظيفية المتاحة (للعائلة) وطمعت الخالات الأربع فى تعيين أبنائهن بينما هو يرى أن أخت زوجته أحقُ، باعتبار أن أباه هو أصل كل هذا الخير (!). وأبلغنى أنه وأقاربه يخططون مع باقى العاملين فى المبنى الإدارى للإضراب فى الشهر القادم ما لم يُستجب لمطالبهم وأولها إتاحة درجات وظيفية جديدة تكفى لتعيين أبناء العاملين (يقصد من أسرته)، ولم أجد أى جدوى من محاولة إقناع شاب تربى وترعرع على أن هذه الدرجات مِلك خاص بعائلته وليست مِلكا للدولة المصرية، واكتفيتُ بتصويب لغوى إذ قلتُ له لعلك تقصد تعيين أحفاد العاملين وليس أبناء العاملين!
لقد اكتشفتُ من عملى فى مؤسسات الدولة المصرية أن الهُزال الذى أصاب معظمها يرجع إلى هذا المرض العُضال الذى تغلغل فيها على مدى العشرين عاما الأخيرة وحرمها من الحصول على أكفأ العناصر من المصريين، وإذا كان علم الوراثة يقول إن زواج الأقارب يُضعف الذرية، فإن تعيين الأقارب يُضعف المؤسسات.
لا يطالب عاقل بفصل كل من تم تعيينه عن هذا الطريق الحرام، وإلا انهارت مؤسسات الدولة تماما (هى الآن منهارة جزئيا).. فلنقُل عفا الله عما سلف.. ولكن أول طريق الإصلاح الإدارى من الآن فصاعدا هو إقرار الجميع، مسؤولين وعاملين، أن الشركات والمؤسسات العامة ليست مِلكا للعاملين بها ولكنها مِلك للتسعين مليون مصرى.. واغتصاب أى وظيفة عنوة هو اعتداء على أملاك الدولة.. هل صارت هذه البديهية تحتاج مقالا؟.. ما أتعسنا!.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة