عندى فى أرشيفى الورقى الخاص أوراق كثيرة، منها وثائق تخص الحركة الطلابية منذ 1968 وإلى 1977، ومنها وثائق تخص التيار الناصرى وبعض التنظيمات المنبثقة عنه، ومنها رسائل شخصية ترقى إلى مستوى الوثائق تلقيتها من الراحل المفكر والعالم والمناضل الشيوعى الدكتور فؤاد مرسى، ومن المفكر والفقيه القانونى والرائد القومى الدكتور عصمت سيف الدولة، ومن المرشح الرئاسى والناشط الطلابى والسياسى حمدين صباحى، وأيضا من الدكتورة هدى عبدالناصر.. وربما يأتى وقت أضع فيه هذه الوثائق فى سياق يتسق معها بغير اصطناع ولا تعسف، وكم راودتنى النفس الأمارة أن أنشر بعضها فى توقيت بعينه، لأساعد الناس على فهم طريقة تفكير ومسلكيات بعض أصحاب تلك الرسائل، وأقصد تحديدا حمدين صباحى، إلا أن نفسى اللوامة تنهرنى عادة وتفتينى بألا أكون مثلهم، خاصة عندما عمدوا إلى ما يسمى «اغتيال الشخصية» ضد العبدلله، وربما كانت دراستى الأكاديمية للتاريخ وتلمذتى لأساتذة أجلاء علمونى أن المؤرخ يجب أن يلتزم بالبعد عن الذاتية وعن الانفعالات الشخصية عند كتابته، وحتى إذا تحول المؤرخ إلى مصدر عبر روايته الشفهية، كشاهد عيان على الأحداث، فإن عليه أن يلتزم بالضوابط نفسها، لأنه أول من يعلم أن روايته للأحداث وحتى الوثائق التى يقدمها لابد أن تخضع إذا وصلت إلى المؤرخ لقواعد النقد المنهجى، وهو نوعان أحدهما يتصل بالرواية من داخلها سواء كانت رواية شفهية أم مذكرات مكتوبة، والآخر يتصل بها من خارجها، أى سؤال مصادر أخرى عاشت الأحداث نفسها، ومقارنتها بروايات أخرى معاصرة تعالج الواقعة ذاتها، ويستطيع المؤرخ من خلال التوظيف السليم لأدواته المنهجية أن يكتشف مكامن الخلل فى إعادة التاريخ، وأن يثبت نقده لها فى كتابته!
لقد تتلمذت فى آداب عين شمس على يد جهابذة مرموقين علميا، وإن لم يشتهروا إعلاميا أو سياسيا، وأذكر شيخ مؤرخى مصر الحديثة والمعاصرة أحمد عزت عبدالكريم الذى سجلت معه لدرجة الماجستير، وتلميذه البكر وهو لا يقل عنه «مشيخة» أحمد عبدالرحيم مصطفى الذى حصل على الدكتوراه من جامعة لندن مطلع الخمسينيات، وكان من زملائه هناك الراحلة الكريمة المناضلة الفذة حكمت أبوزيد عالمة الاجتماع وأول امرأة تتولى الوزارة فى مصر، وكان الذى اختارها وكلفها بالمهمة هو جمال عبدالناصر.. كما أذكر أستاذى العلامة فى التاريخ الأندلسى وتاريخ المغرب العربى الكبير، الدكتور محمد عبدالهادى شعيرة، وأذكر الدكتور عبدالمنعم ماجد المتخصص فى تاريخ الدولة الفاطمية.. ثم حدث ولا حرج عن أستاذى الفذ العلامة إسحق تادرس عبيد أستاذ التاريخ البيزنطى والكنسى وأوروبا العصور الوسطى، ومنه تعلمت الكثير ومنه تزودت بالزاد الذى ظل راسخا فى تلافيف تكوينى كله آخذ منه حتى الآن وبعد مرور أكثر من 45 سنة ولا ينفد، ثم أذكر أستاذى وأبى الروحى الذى لم يكن يكتفى بالمهمة العلمية مع تلاميذه بل كان متحملا المسؤولية الإنسانية، ابتداء من همومنا الأسرية وفقرنا الدكر ومرورا بتورطاتنا العاطفية، وليس انتهاء بالاحتواء والطبطبة وتوفير الطعام والشراب وأحيانا الدخان، إنه سيد مصطفى سالم الذى تخصص فى الماجستير والدكتوراه فى تاريخ اليمن، وكانت رسالته مرجعا قرأه جمال عبدالناصر قبل وأثناء تولى مصر مهمة إخراج الشعب اليمنى من العصور الوسطى إلى التاريخ المعاصر، ومنذ 1972 تقريبا وأستاذى ذهب إلى اليمن وعاش هناك وربى أجيالا من اليمنيين فى جامعة صنعاء ومراكز البحوث، واعتبره اليمنيون واحدا منهم ومازال يقوم بمهمته الجليلة حتى الآن وقد بلغ الثامنة والسبعين، لأنه أكبر منى بعشر سنوات!
ولا أود أن أمضى راكضا فى مضمار مرحلة الجامعة، لأنه مضمار عريض وطويل، له جوانب أكاديمية، وأخرى سياسية، وثالثة إنسانية، ورابعة نضالية، إلا أننى فتحت حديث الذكريات ليكون وقودا يدفعنى إلى حديث الآلام.. ويا لها من آلام كان نموذجها الإنسانى الدامى هو أسبوع آلام السيد المسيح، له المجد، عندما طارده اليهود والرومان وخانه تلميذه يهوذا الإسخريوطى، وكان المسيح يعلم أمر تلك الخيانة فقال أثناء العشاء الأخير: «يد من هذه الأيادى الممتدة سوف تسلمنى إلى بيلاطس الحاكم»، وأخذ كل تلميذ يتساءل من هو يا معلم؟ وقبض يهوذا الثلاثين فضة، واكتملت المأساة بأن أخذوا السيد ومضوا به حافيا وألبسوه تاجا من الأشواك وبثوا الأشواك على طول الطريق.
آلامنا الحالية تكاد تكون مماثلة لما جرى، حيث عمد الخونة الذين باعوا مصر بالريالات والدولارات وربما الشاقلات، إلى بث الأشواك فى طريق الوطن، ولكن أشواكهم ليست حسكا ولا جهنمية كالتى كانت منذ أكثر من ألفى عام، ولكنها أشواك من نوع المولوتوف وقنابل البلى والمسامير والمواد شديدة الانفجار!
ومن المفارقة أن يكون اليهود والرومان مختلفين عن الخونة الذين يرفعون راية الإسلام وهو منهم براء، لأن هؤلاء الأخيرين لم يوجهوا خيانتهم لشخص واحد وإنما وجهوها للوطن كله، وهاهم الشهداء من الجيش المصرى العظيم ومن الشرطة المصرية ومن المواطنين الغلابة يتساقطون بالعشرات، نحن فى أسابيع قد تطول للآلام الوطنية والإنسانية، وأبشع ما فيها أن الذين رتبوا لها ويمارسونها يتمتعون بالحماية القانونية التى ترتب حتمية تقديمهم للقضاء وحتمية وجود دفاع عنهم ولهم أبواق سياسية إعلامية تنعق صباح مساء.. هذا بدلا من أن يكون القصاص منهم عاجلا وعلى قاعدة من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا وأن العين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم، وأن القصاص فيه حياة لأولى الألباب!
إن قمة الألم فى حياة الشعوب عامة هى أن تجد نفسها محشورة بين مقتضيات أمنها وتأمين أبنائها وبين متطلبات انطلاقها إلى غد أفضل، وأن تجد أبناءها الذين نذرتهم للدفاع عن ترابها الوطنى ضد العدو الخارجى الغازى، وقد تسربل التراب بدمائهم وهم يحاولون لجم غول العنف الذى يرتكبه من يفترض أنهم مواطنون يحملون الجنسية ذاتها ويعيشون على الأرض نفسها.
لقد جاءت أيام على مجتمع كان يحكمه ذو النورين عثمان بن عفان، ومن بعده على كرم الله وجهه، ثم من بعدهما معاوية ومن تناسل من عشيرته الأموية ولم يكن «التراب الوطنى» مهددا من عدو خارجى، ولم تكن ثمة حرب بين المسلمين وبين أعدائهم، ومع ذلك سقط العشرات ومنهم صحابة كبار وأبناء صحابة كبار وتابعون، لمجرد أن الحاكم رأى فيهم تهديدا لأمن الحكم من وجهة نظره فاستباح لنفسه أن يستخدم «جنود الله الذين هم من عسل» أى السم الزعاف تارة، وأن يمارس القتل والسمل سمل العيون «أى فقؤها وإخراج سملتها» والصلب لدرجة قتل وصلب عبدالله بن الزبير الذى هو حوارى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وظل معلقا تأكل الطير منه حتى مرت أمه أسماء بنت أبى بكر ذات النطاقين أول فدائية فى مسيرة الإسلام، وهى شبه مكفوفة وطاعنة فى العمر، ولما نبهوها بأنها تمر إلى جوار جثمان ابنها المصلوب، قالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟! وهذا الذى جرى آنذاك يدفعنا للتفكير مليا للإجابة عن سؤال هو: لماذا لا نطبق شرع الله فورا فيمن ادعوا لأنفسهم أنهم يقتلوننا من أجل تطبيقه ولماذا لا نشاهد مصلوبين على جذوع النخل وقد قطعت أطرافهم من خلاف بعد أن يوقع عليهم حد الحرابة؟!
أعلم أن آلامنا لن تنتهى قريبا، وأعلم أن دماء زكية ستسيل وأن الفصد هو أحد وسائل العلاج، ولكنى أعلم أيضا أن مسيرة الآلام لابد أن تثمر انتصار الحق، بكشف يهوذا الخائن وانتهاء حكم الرومان وشتات اليهود فى الأرض.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة