يحيى حسين عبدالهادى

ذو خلفية عسكرية.. وأفتخر

الإثنين، 31 مارس 2014 05:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن أكثرنا تشاؤماً يتخيل عندما تسابقنا للالتحاق بهذه المؤسسة الوطنية المحترمة قبل حوالى أربعين عاماً، أننا سنعيش زماناً نرى فيه بعضهم يتمطع ويتنطع أمام الكاميرا ويُصدر حكماً قاطعاً بأن الشعب المصرى لن يقبل بعد اليوم مديراً أو رئيس مؤسسة أو رئيساً ذا خلفية عسكرية (إحداهن كانت أكثر تحديداً فقالت إن المصريين يرفضون أى شخص خدم فى القوات المسلحة ولو ليوم واحد).. هكذا.. أحكام مطلقة لا يقوم عليها دليل ولا منطق (ولا وطنية)، يتقيأون بها علينا باسم الشعب الذى لم يفوضهم ليتحدثوا باسمه، فضلاً عن أن معظمه لم يعد يطيقهم. وأعجب كثيراً من بعض الأصدقاء من النخبة السياسية فى مصر الذين ينصحوننى فى بعض المواقف بتحاشى ذكْر سابقة خدمتى فى جيش الشعب وكأنها سابقة جنائية يجب التنكر لها. أنا ذو خلفية عسكرية وأفتخر بذلك وأعتز بعشرين عاماً قضيتُها بين خير أجناد الأرض.. أدعو الله أن يجعلها واقيةً لعينى من مسّ النار يوم القيامة وأن يجعلها فى ميزان حسناتى يوم ألقاه.
أنا ذو خلفية عسكرية وأفتخر وأحمد الله الذى شرّفنى بهذه النعمة التى صاروا يسبّوننا بها.. وأكرمنى بخدمة مصر فى جيشها العظيم وألهمنى قراراً صائباً وأنا بعدُ فى الثامنة عشرة من عمرى عندما حصلتُ على شهادة الثانوية العامة فى أسيوط بمجموع يؤهلنى لدخول أى كلية مدنية فى مصر (بما فيها جميع كليات الطب) وكنتُ مُعافًا طبياً من الخدمة العسكرية (نظر).. لكن قرارى (الذى احتمله أبواى) كان هو الاغتراب فى هذه السن المبكرة ملتحقاً بالكلية الفنية العسكرية.. وكان ذلك أيضاً قرار الآلاف غيرى من شباب مصر الذين التحقوا بالكليات العسكرية المختلفة كنوع من الجهاد فى سبيل الوطن الجريح (كانت سيناء محتلةً).. كثيرون منهم كانوا أيضاً مُعافين طبياً أو عائلياً.. وقد فعلنا هذا فى الوقت الذى كان فيه آخرون يتهربون من الخدمة العسكرية (بإحداث عاهات فى أنفسهم أحياناً).. لعل منهم من يتبجح الآن ويرتزق بالإساءة للجيش، ويُعايرنا بخلفياتنا العسكرية.
أنا ذو خلفية عسكرية وأفتخر بعمرى الذى أمضيته فى الجيش.. كانت أياماً جميلةً رغم مشقتها.. وكان يخفف من مشقتها ويُرطّب من قسوتها شعور يتخللك دون أن تلمسه (أو كما تقول الأغنية: بالروح يتحّس).. شعور بالزهو بأنك فى شقائك هذا خادم لشعبك.. وهو نفس الشعور الذى يتسرب لأسرتك ويخفف عنها بعضاً مما تعانيه من مشقة نتيجة طول غياب العائل عنها. أنا ذو خلفية عسكرية وأفتخر بانتسابى لهذا الجيش الذى تعلمنا فيه أن كُلاً منّا مشروع شهيد (بحق) سواء فى وقت الحرب أو السلم.. فى التدريب أو الميدان.. فى العلن أو السر، وأن الاستشهاد قيمة عليا وشرف لا يجوز المتاجرة به، وهو نفس المعنى الذى كان ينتقل لأُسر الشهداء دون تلقين، وقد عايش كثيرون منا مشهداً متكرراً يكاد يتطابق.. تتلقى أسرة الشهيد النبأ الفاجع بحزن نبيل يجمع بين لوعة الفراق والفخر بالشهيد.. وأحياناً يُحرمون حتى من لقب (شهيد) فى النعى فى الصحف لأسباب تتعلق بسرية المهمة فلا يتململون.. لا يطلبون تعويضاَ (وإن أُعطوا رضوا) ثم يمضون فى حياتهم يصارعونها وتصارعهم ككل المصريين، مكتفين بصورة مكللة بالسواد معلقة على الحائط، يعتز بها الأبناء حينما يكبرون.
وللشهادة فى الجيش معنى عظيم لم يُبتذل كما ابتُذل من البعض منذ ثورة يناير (التى أفخر بالانتماء إليها) عندما صارت مجالاً للمزايدة والاسترزاق من البعض بحيث زاحم فيها الشهداءَ الحقيقيين كثير من لصوص المولات والبيوت ومهاجمى الأقسام. وكان من المخجل أن يبقى تعويض شهداء الجيش أقل من خمسة عشر ألف جنيه، بينما وصل مزاد تعويضات ضحايا وقتلى حوادث استاد بورسعيد وماسبيرو ومحاولات اقتحام منشآت الدولة وحرق المجمع العلمى وغيرها إلى مائة ألف جنيه للضحية مع منحه لقب شهيد (!).. وهو ما استفز أحد النواب المحترمين، فطالب بزيادة معاش الشهداء العسكريين ليتساوى مع معاش هؤلاء! (من الأمانة أن أقول إن هذا النائب هو طارق الملط القيادى بحزب الوسط).
جيش مصر هو مؤسسة مصرية خالصة.. لكنه أجمل ما فى مصر.. تشرفتُ بخدمة مصر عشرين عاماً فى الجيش ومثلها فى مؤسسات مدنية، وأستطيع الآن أن أشهد أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التى يوجد بها نظام صارم (حقيقى ومُطّبق) للترقى، يعتمد على التأهيل التدريبى وتقييم الممارسات القيادية، بحيث لا ينفذ إلى المناصب الأعلى إلا الأكفاء عسكرياً، ويكاد ينعدم دور المحسوبية والنفاق (وأشياء أخرى) فى هذا النظام، على العكس مما يسود المؤسسات المدنية. جيش مصر هو المصريون، ولكن فى أبهى صورهم.. يلتحقون به تجنيداً وتطوعاً.. متعلمين وأميين.. صعايدة وفلاحين.. مسلمين ومسيحيين.. بكل إيجابياتهم وسلبياتهم.. فإذا بسلبياتهم تتراجع ويصطبغون بقيم إيجابية واحدة.. الانضباط والإنجاز والجديّة.. ويربط بين الجميع معادلة غير مكتوبة، مفادها أن كل ما هو مِلكُ الوطن غال، وأن حفنةً من تراب الوطن تساوى روحك.. (كنتُ ولا زلتُ ُلا أرى أى بطولة فيما فعلتُ فى مواجهة فساد صفقة عمر أفندى، فالأمر كان أبسط كثيراً مما تربينا عليه فى الجيش.. إذ كان ما دافعتُ عنه حوالى مليار جنيه من المال العام وليس مجرد حفنة من التراب.. كما أن الثمن الذى دفعتُه يظل أقل كثيراً من التضحية بالروح.. بالمناسبة لم يعايرنى أحد وقتها بأننى ذو خلفية عسكرية بل اعتُبِرَت هذه الخلفيةُ مكرُمةً).
ينتحر أى فصيل سياسى فى مصر شعبياً إذا ظن أنه يكسب أرضاً بتطاول مريديه ضد الجيش، مهما علا صوتهم فى الفضائيات، وأياً كانت الراية التى يتصايحون تحتها كذباً: دينية أو ليبرالية أو غير ذلك.. هذا ينّم عن جهل مطبق بحقيقة العلاقة الفريدة بين المصريين وجيشهم.. الشعب المصرى بالفطرة يُحب جيشه وينزع تأييده عن كل من يُسىء إليه.
هل العسكريون ملائكة؟ بالطبع لا وإلا لما كان فى الجيش محاكم عسكرية للمخطئين.. ولكنهم ليسوا شياطين أيضاً.. هم مصريون.. يخطئون ويصيبون.. ينجحون ويفشلون.. ولكنهم وطنيون.. لا يخونون.. ينطبق عليهم قول عم أحمد فؤاد نجم «لو خان زمانهم ما بيخونوش».. والجواسيس فى تاريخ الجيش المصرى الحديث كله أقل من أصابع يد واحدة (منهم بطل قصة فيلم الصعود إلى الهاوية).. جيشنا ليس كمثله جيش.. قد ينتصر وقد ينهزم.. ولكنه أبداً لا يرتزق ولا يخون ولا يخذل شعبه. العسكريون ليسوا مقدسين طبعاً.. لكن الجيش مقدس فجيش مصر هو مصر.. لا يهاجمه إلا عدو (إذا كان غير مصرى) أو خائن (إذا كان مصرى الجنسية).








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة