كثيرًا ما كان يقلقنى عند مناقشة أى موضوع عام، أن يتحول النقاش فيه إلى جدل ثم محاولة مستميتة من الآخر لفرض الرأى ولو بالقوة، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا مختلفين فى معظم الأشياء، وهى حكمة إلهية عميقة لعل المراد منها أن نستفيد من هذا الأختلاف لإعمار الدنيا وليس للاقتتال الداخلى وتدمير المجتمع وتحويل الأمر من اختلاف إلى خلاف ثم لفرض الحلول ولو وصل الأمر إلى القتل والدمار.
ولا شك أن الاختلاف فى وجهات النظر الفكرى والبحثى، وتقدير الأشياء والحكم عليها هو أمر فطرى له علاقة بالفروق الفردية التى خلقنا الله بها، إذ يستحيل بناء الحياة، وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس أصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك أن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بين الناس هذه الفروق الفردية، سواء كانت خلقية أم مكتسبة، وبين الأعمال فى الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات، يقول تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين".
ومن خلاصة القول فى هذا: إن الاختلاف الفكرى فبدلاً من أن يكون ظاهرة صحة تغنى العقل بخصوبة فى الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الأمور من أبعادها وزواياها كلها، وإضافة فكر بحثى إلى عقل الأمة فإنه قد أدى إلى انقلاب الطريق عند الباحث والمنظر الفردى، ليصبح طريقًا للتخلف، وإلى وسيلة للتآكل المجتمعى الداخلى والإنهاك، وفرصة للاقتتال حتى كاد الأمر أن يصل ببعض المختلفين إلى حد التصفية الجسدية، وإلى الاستنصار والتقوى بأعداء الدين الوسطى من الشرق والغرب على سواء.
ولقد وصلت حدة الاختلاف إلى مرحلة عظيمة خصوصًا عند بعض الفرق الإسلامية التى ترى أنها على الحق المحض أكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد حيث أصبح لا سبيل فى فكرها إلا بالتصفية الجسدية للمخالف.
وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التى محلها أهل النظر والاجتهاد على أيدى المقلدين والأتباع إلى ضرب من التحزب الفكرى والتعصب السياسى والتخريب الاجتماعى تؤول على ضوئه آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فتصبح كل آية أو حديث لا توافق هذا اللون من التحزب الفكرى، إما مؤولة أو منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود إلينا مقولة الجاهلية: "كذاب ربيعة أفضل من صادق مضر".
الخلاصة أنه يجب أن يكون لدينا ثقافة الاختلاف وآداب الاختلاف لكى نستفيد من بعضنا البعض، وأن يحكمنا فى أى نقاش الموضوعية وعدم التجريح فى بعضنا البعض، لأن التجريح هو وسيلة العاجز وحده، أما الواثق المثقف فلديه من الحجج ما يستطيع الدفاع بها عن رأيه عند الاختلاف.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة