يأتى الصديق عزازى على عزازى اليوم جثمانا، ودعته قبل يومين من سفره إلى الصين لإجراء عملية زرع كبد، فى لقائى الأخير به كان متصالحا مع نفسه كعادته منذ أن تعارفنا عام 1985 وتقاربنا منذ لحظتها.
لم يتحدث عن مرضه إلا دقائق، وانصرفنا إلى اجترار ذكريات الماضى وآمال المستقبل، وكأن فى العمر بقية تسمح بالأحلام الكبيرة، كان كبده يواصل رحلة الوصول بالجسد إلى النهاية، لكنه كان يقاومه بإرداة المحب للحياة والراضى بقضاء الله وقدره.
فى ذكريات الماضى كان مركز إعلام الوطن العربى «صاعد» هو مكاننا الذى عملنا فيه سويا، وتحت سقفه كنا نرسم أحلامنا الكبيرة، نتنفس ونتحرك لها، ونسهر الليل للتغنى بها، شعرا، ونثرا، وطربا، وحكايات عن هزائم الحب والشوق إلى حب جديد، ثم نستيقظ نهارا لمواصلة العمل، أو السفر إلى بلاد لفك أسرارها، وزرع بذرة للأمل فى أرضها، وبين الليل والنهار نسرق وقتا للكتابة التى أحببناها فأخذت عمرنا.
فى بيت صديق العمر جمال الجمل بشارع عبدالحميد الديب بـ«الخلفاوى» كنا نقاوم قسوة الواقع بمزيد من الإصرار على التمسك بأحلام العدل والديمقراطية والانحياز للفقراء وتحرير فلسطين والوحدة العربية، وكان صديقنا أحمد إسماعيل يترجمها بغنائه المدهش، وصوت عزازى يدندن بشجن: «يا وابور قولى رايح على فين» لمحمد عبدالوهاب و«كل شىء رائع البهجة ههنا» لرياض السنباطى، أما قريتى «كوم الآطرون» فصارت حواريها وشوارعها وبيوتها وحقولها مكانا هانئا له، يأتيها دون إذن لأنها أصبحت بلده، وأهلها أهله، ويأكل من خبز أمهاتنا لأنه صار ابنهم.
تواصلت السنون وهناك من ظل باقيا على العهد، وهناك من نفض يديه، وهناك من احتفظ بالحلم لكنه عاد إلى بيته مؤثرا السلامة، لكن «عزازى» لم يحبس أحلامه فى قلبه وعقله ملتزما السكون فى بيته، بل تجول بعيدا أو قريبا، تعفرت قدماه بتراب مصر من اللف والدوران فى جولات إلى القرى والنجوع، فى الدلتا والصعيد والقناة، باحثا عن جواهر الناس والأماكن، مبشرا بالثورة، محرضا ضد استبداد وظلم نظام مبارك والتطبيع مع إسرائيل.
صاحبته فى بعض جولاته إلى القرى والنجوع، وكما عرفته منذ البداية كان يتألق بقدرته الفائقة فى التحدث بلغة أهل من يزورهم، والتوحد مع مشاغلهم ومشاعرهم، فيحصل على ثقتهم سريعا لتبدأ رحلة تعاملهم معه بوصفه واحدا منهم، وفى هذا كان يترجم دور المثقف الحقيقى، فهو لا يتحدث بفصاحة لسان لا يفهمها البسطاء، بالرغم من أنه يحمل رسالة الدكتوراه فى الأدب العربى، ولا يتكلف وراء رابطة عنق وبدلة شيك وروائح نفاذة بالرغم من أناقته، وإنما يجلس على «الحصيرة»، ويلضم فى الحوار مع الفلاح والمثقف والشاب والعامل والموظف والغنى والفقير مخلفا أثرا طيبا وجميلا من إنسان جميل، ولأنه واحد من الناس المتسقين مع أنفسهم، لم يزغلل «الكرسى» عينيه فتقدم بالاستقالة من منصبه محافظا للشرقية فور فوز محمد مرسى بالرئاسة، لأنه تنبأ بأن مصر لن تكون كما حلم لها، يرحل عزازى تاركا حزنا مقيما فى قلوب كل من عرفه، فإلى لقاء يا حبيب العمر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة