كل المرشحين لمقعد رئيس الجمهورية الموجودين على الساحة الآن لا ينتمون لأحزاب سياسية، فسواء المشير السيسى أو الأستاذ حمدين صباحى أو المستشار مرتضى منصور لا يوجد خلفهم حزب سياسى ينتمون إليه ويدعمهم، وهذه الجدلية جديرة بالمناقشة والبحث، ففى حين يؤيد حمدين صباحى التيار الشعبى الذى هو خليط من أعضاء الأحزاب المختلفة وبعض المستقلين وأعضاء الحركات السياسية، نجد أيضا على الطرف الآخر المشير السيسى يتماثل فى الحالة والوصف.
قد تكون الأحزاب عانت تضييقا كبيرا إبان حكم مبارك، وقد تكون أيضا فى حالة بناء منذ ثورة يناير، ولم يثمر حتى الآن هذا الجهد عن كيانات واضحة ومؤثرة فى الحالة السياسية، بدليل ظهور جميع المرشحين للرئاسة من خارجها، إلا أن هذا يجب ألا يدفعنا لأن نكفر بالتجربة الحزبية السياسية ونبتعد عنها، فمربط الفرس لمداواة الظرف المصرى السياسى هو بناء أحزاب قوية وجادة، ولا يمكن التخلى عن هذا الأمل ليس فقط لأنه منصوص عليه نصا فى الدستور، بأن الحياة السياسية تقوم على التعددية الحزبية السياسية، ولكن لوجوب إنشاء حزب سياسى حقيقى وحاشد وجاد ليقاوم ظاهرة استخدام الإسلاميين للأحزاب فى حشد الناس فى مواجهات ظاهرها الدين وباطنها السياسة والمصالح، مصر ستظل فى مواجهة مع أحزاب الإسلام السياسى إلى فترة ليست بالقليلة حتى وإن كانت مستترة، ومن يتصور أنه باستخدام الأمن وحده سنقضى على جماعة الإخوان وفكرها المنتشر بين طبقات عدة فى المجتمع فهو واهم تماما، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولن يقاوم جماعات الاستغلال الدينى إلا أحزاب كبيرة تواجه هذا المد المتطرف فى كل الشوارع والحوارى والأزقة.
لقد حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بدون حزب سياسى واستقوى بالظهير الشعبى ولم يعر بالا لإقامة حياة سياسية ديمقراطية كما نصت مبادئ ثورة 23 يوليو 1952، وانتشر فقه أهل الثقة حتى وإن كانوا بعيدين عن العمل السياسى والشعبى، وأثناء ذلك توغل تيار الإسلام السياسى داخل جدران المجتمع ولم تفلح شعبية وأداء ناصر واستدعاء معارك وطنية تخص الأمن القومى وحشد الناس حولها فى مقاومة المد السياسى الذى يضلل الناس باستخدامه للدين، وكانت حادثة المنشية ومحاولة اغتيال ناصر من قبل رجال الإسلام السياسى دليلا فجا على خطأ التنظير لعبدالناصر ورجاله وكتابه بعدم احتمائه بظهير حزبى سياسى قوى، وعدم قدرة الظهير الشعبى على ضحد تلك التيارات المتأسلمة المتأمرة.
وجاء بعده الزعيم الراحل أنور السادات وحاول استدراك خطأ ناصر وأقام حياة سياسية متدرجة بدأت بالمنابر وانتهت بحزب سياسى خادع «الحزب الوطنى» والذى لم يكن يوما حزبا سياسيا بأى حال، ولكنه كان من أدوات الرئيس لإضفاء شرعية ديمقراطية على نظام حكمه، واستلهم السادات تجارب الشيوعية واستخدمها لمواجهة تيار الإسلام السياسى ولكنها لم تفلح، وظهرت سلبيات التجربة جلية فى حادثة المنصة واغتيال السادات من قبل أعضاء التنظيمات الإسلامية التكفيرية فى امتداد لحادث المنشية الذين حاولوا فيه اغتيال ناصر، ولم تفلح محاولات السادات الهيكلية السياسية فى القضاء على الفكر التكفيرى، ولم يقم أيضا بإنشاء حزب سياسى شعبى حقيقى يستمد أرضيته من إيمان الناس بالمشاركة السياسية والبناء الديمقراطى، ولكن التفتوا وحرصوا على مجاورة الرئيس لاصطياد منافع ومغانم الحكم فقط!!
وهكذا استمر مبارك على نهج رئيسه السادات، والذى كان نائبه لست سنوات ولكنه أضاف بعدا تصالحيا مع جماعات الإسلام السياسى، وعقد معهم الصفقة تلو الأخرى إلى أن اصطدمت الإرادة الشعبية فى ثورة يناير 2011 بهذا التزييف للواقع السياسى وانقلب عليه حلفاؤه من الإخوان والتحقوا بالثورة بعد أن ألقت بشائرها على الأرض، وتجلت أيضا مساوئ عدم وجود حزب حقيقى يستند عليه الحكم أو حتى المعارضة أثناء فترة حكم مبارك كله، ولم يستدل على مقاومة أشاوس الحزب الوطنى السياسية لثورة يناير!!
من تلك التجارب المصرية السياسية فى ستين عاما، ومن استلهام خطوات الدول المتحضرة والمتقدمة، أرى أن الظهير السياسى الحزبى «الحقيقى» للرئيس القادم أمر جدير بالاهتمام والدراسة، والمحاولات الجادة لبنائه بشكل سياسى شعبى حقيقى قد تكون طوق النجاة لهذا الوطن، وأعتقد أن الفرصة مواتية للمرشحين السيسى وحمدين لبناء هذا الكيان الحزبى السياسى الجاد سواء حاكما أو معارضا، لأنى أعتقد أن هذا المشروع هو الفرصة الأخيرة والوحيدة للقضاء على التيارات التى تتذرع بالدين فى العمل السياسى، وتستقطب الجماهير على الجنة والنار فى قضايا المصالح والسياسة.