أحمد الجمال

اللحظة التاريخية.. همة الأمة ودور الفرد

الثلاثاء، 15 أبريل 2014 11:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى التراث الصوفى أن مريدا سأل شيخه وألحّ فى السؤال: كيف ينتقل من حال إلى حال ويرتقى مدارج الرقى ليصل لمعرفة الحق حق المعرفة؟! ورد الشيخ بأن طلب إليه أن يذهب إلى المسجد، وأن يقيم الصلاة المفروضة، وأن يتنفّل قدر ما يستطيع، وذهب صاحبنا وفعل ما أمره به شيخه وانتظر أية فتوحات ربانية فلم يشعر، وعاد إلى شيخه الذى بادره متسائلا: هل فعلت ما أمرتك به؟ وأجاب: نعم. ثم سأله الشيخ: وأين وضعت نعلك؟ فأجاب المريد: وضعته أمام ناظرى خشية أن يسطو عليه أحد، وليس عندى غيره! صمت الشيخ طويلا، ونظر للمريد وقال: لو كان حرصك على المعرفة بحجم حرصك على حذائك، لكان الأمر مختلفا، ولو كانت همتك تسامت للوصول إلى الحق بقدر ما تدنت للحرص على الحذاء لكنت وصلت!
تبقى تلك الأقصوصة فى خلفية دماغ المرء وهو يشاهد ويتابع من تعلقت أبصارهم وهممهم بالأدوار والمناصب، يطلبونها ويتدافعون حولها ويبذلون كل غالٍ من مبدأ وفكرة وقيمة، وكل رخيص من مال وماء وجه لأجلها، فيصل لقناعة هى أن من يفعل ذلك سوف يبقى كذلك حتى وإن جلس على أعلى أريكة، وسيتركز كل حرصه وهمه وطاقته للحفاظ عليها تحت مؤخرته، ولن يهتم بما أقيمت من أجله الأريكة، ألا وهو مصلحة الأمة وصيانة الوطن.
لقد قيل إن «طالب الولاية لا يولى»، وفسّرها البعض تفسيرا مباشرا يصب فى أن طالبها يكون مغرورا يعطى نفسه الحق فيما قد يصلح له غيره، وفى ظنى أن تفسير العبارة يتجاوز الشخص إلى الموضوع، لأن طالبها سوف يبقى طوال وقته خائفا عليها حريصا على أن تدوم له مهما كان الثمن، ولن يستطيع بحال من الأحوال أن يعتبرها واجبا يهدف لمصلحة الأمة وصيانة الوطن كما أسلفت.
ولقد دار الكلام فى الأدب الروائى وفى سير - جمع سيرة - وفى العلوم الإنسانية الاجتماعية حول الدور الذى يبحث عن بطل، أو حول الفرد التاريخى وكيف يتهيأ ظرف موضوعى تتجمع فيه كل الإشارات لتشير إلى مواصفات الشخص الذى يصلح لملء مساحة الدور.
إننى أذهب إلى أنه حتى فى الرسالات السماوية، وهنا نحن إزاء إرادة الخالق سبحانه وتعالى وقدرته على أن يختار من يشاء ليكلفه بالرسالة، ومع ذلك فإن الإرادة والقدرة والمشيئة لابد أن تتطابق مع النواميس الكونية التى أرساها الخالق أيضا، لتأتى الرسالات فى مراحل زمنية بعينها تتصل بحياة البشر وبعلاقاتهم الأفقية بينهم وبين بعضهم، ثم علاقتهم الرأسية مع الكون ومع خالقهم جل وعلا.
وما من رسالة من الرسالات التى عرفناها من خلال كتبنا المقدسة إلا واقترنت بالأسباب التى أدت لنزولها فى مكان وزمان محددين.. ثم يكون خطاب التكليف الإلهى لمن اختير للمهمة متضمنا بيان ما جاء لينقضه وما جاء ليتممه، ولم يترك الأمر بغير ضوابط «أى سبهللة» لمن يريد وقتما وأينما أراد ليقول أنا لها ولا أحد غيرى، ولذلك ظهر الذين ادعوا النبوة كمسيلمة وسجاح وغيرهما، وحاولوا أن يقولوا مثلما يقول الأنبياء والرسل الحقيقيون.
ولقد عرفت الأمم تجارب بغير حصر أعطت فيها المجتمعات زمام قيادتها، أو بالأصح تركت زمام قيادتها فى يد من لا يملك مؤهلات القيادة، وأولها التجرد والإجادة، وكان أن حدث التهاوى والاضمحلال.. ويبدو أن ثمة ناموسا أو قانونا كونيا يحتم حدوث الدورات التاريخية فى حياة الأمم ما بين دورات للنهوض والتقدم وأخرى للاضمحلال والتردى.. أو كما يرى آخرون إذ يجدونه خطا بيانيا متصلا له قمم صاعدة وقيعان هابطة، والعنصر الحاسم بين الدورات أو بين القمم والقيعان، هو وجود الإرادة القوية والقيادة المؤهلة لتوظيف إرادة الأمة فى الاتجاه الصحيح اللتين إن توافرتا فإنهما دورة النهوض وقمة القوة، وإن غابتا أو غابت إحداهما فهى دورة التردى وقاع الضعف، إذ لا يكفى وجود قيادة واعية متوثبة فيما الأمة فاقدة للإرادة غير قادرة على استجماع قوتها، والشاهد التاريخى منذ ممالك وإمبراطوريات العصور القديمة والوسطى إلى العصور الحديثة، حيث الدول القومية والإمبراطوريات الاستعمارية ثم القوى العظمى ثم العمالقة فى الاقتصاد والتقدم العلمى، رغم خسارتهم الصراعات العسكرية ـ اليابان وألمانيا ـ الشاهد هو أن الأمة فى أوقات الخطر دائما ما تتجه إلى من لديه القدرة والقوة الصالحين لقيادتها، وما إن تزول تلك الأوقات وتنقشع الغمم حتى تقول له الجموع شكرا كتر خيرك لك أن ترتاح فإن لم ترتح بإرادتك فستفعلها بإرادتنا، وقد كان تشرشل وديجول رمزا لهذا وذاك.
إننى أكتب ما سبق ليس لتكتيك اللف والدوران حول مسألة الترشح الرئاسى لمصر فى الفترة المقبلة والمفاضلة بين هذا المرشح وذلك المرشح، وإنما أظنه كلاما مباشرا يحمل اجتهادا قد يصيب وقد يخطئ فى كيفية قراءة اللحظة التاريخية التى تحكم العقل وتضبط الوجدان عند أى اختيارات، سواء على مستوى التكوينات السياسية الصغيرة أو على مستوى الأمم.
إن مصر الآن ليست فقط بصدد مفاضلات بين برامج سياسية تتحدث عن الديمقراطية والتعددية وتبادل السلطة وإلى آخره، وليست فقط بصدد ترجيحات بين برامج اقتصادية اجتماعية حول العدل الاجتماعى وحقوق الفقراء والمسحوقين، وإنما هى قبل هذا وذاك تخوض حربا حقيقية لم تشهدها من قبل، حيث الجبهات الخمس - الشمال والجنوب والشرق والغرب والعمق - مفتوحة ومشتعلة.. وربما يسألنى سائل: كيف هى مفتوحة فى الشمال إذا فهمنا أن التكفيريين فى الشرق وأن السلاح المعادى يتدفق من الغرب والجنوب، وأن الإخوان وشركاءهم يطلقون النار ويشعلون الحرائق فى العمق، فأقول إن الحرب من الشمال لا تقل ضراوة عن الرصاص والحرائق والتدمير، لأننا إزاء اتحاد أوروبى وولايات متحدة لا يخفيان عداءهما للمشروع الوطنى المصرى، ولا يستحييان من دعم مشروع التفكيك والتفتيت والتخلف الإخوانى - السلفى، لكى يضمنا أن تبقى مصر فى مستنقع التحارب والصراع الداخلى آمادا طويلة، ولكى تجد الدولة العبرية المجال المواتى لتصبح عبرية يهودية خالصة على أرض فلسطين وتقيم إمبراطوريتها الكبرى ليس بالسيطرة المباشرة والاحتلال، وإنما بالهيمنة على إرادة محيطها الممتد من نهرى العراق إلى نهر مصر الكبير.. وبالتالى تعالوا نتحدث فى تحليل وتشريح اللحظة التاريخية ونحدد أبعادها بدقة شديدة لنعرف أى قائد نريد، وما هى القدرات والإمكانات التى يجب أن تتوافر فيه وله، وعدا ذلك فهو هزر فى موضع الجد، ومماطلة و«استهبال» فى لحظة استحقاق وطنى لا يمكن الاستهتار به.
لو أن همة البعض وعيونهم وحرصهم على مصلحة الأمة وليس على كرسى الرئاسة، لحق لهم أن نسعى إليهم ليتولوا أمرنا.. أما أن يكونوا مثل المريد الدرويش الذى تعلقت همته بالجزمة، فذلك مقام آخر يستحق كلاما مختلفا قد يعاقب عليه القانون.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة