محظوظ لا ريب من تمنحه المقادير نعمة المعرفة، وقد أهدانى الزمان أخا أكبر كان المعلم الثانى بالنسبة لى، إذ تمتع بعقل جبار قادر على النفاذ إلى أية ظاهرة وإزالة الحجب عنها، ليكشف جوهرها وأصلها (وفصلها)، ثم يشرحها بهدوء وببساطة للسائل أو المحتار، فضلا عن شغفه اللا محدود بالقراءة والاطلاع، الأمر الذى جعله واحدًا من كبار المثقفين الذين التقيتهم فى حياتى.
لم يكن إبراهيم عبد الفتاح إبراهيم عراق سوى الابن الأول لوالده العامل المكافح الذى أدرك أن العلم هو السلاح الأهم والأجدى، وأن المعرفة متعة لا تضاهى، وهكذا حين أكمل إبراهيم عامه الخامس – مولود فى 10 سبتمبر 1945 – ألحقه أبوه بالمدرسة الابتدائية فى شبرا البلد بشبرا الخيمة.
طارد إبراهيم المعرفة، واصطادها من الكتاب أو الشاشة أو خشبة المسرح، فعشق الأدب والتاريخ، وافتتن بالسينما والمسرح والرسم والخط العربى، وكم حكى لى جولاته مع ابن عمه محمد يوسف عراق – صديقه الحميم وتوأم روحه - لارتياد المسرح القومى فى الزمن الغابر، فشاهد العروض البديعة التى أسست لمجد هذا المسرح فى ستينيات القرن الماضى، كما انشغل بالسياسة والجغرافيا، وعلمنى أنه ما من أحد يستطيع أن يفهم السياسة دون أن يدرك الجغرافيا. ولما انتصف عام 1967 تخرج إبراهيم فى كلية التجارة جامعة عين شمس ليلتحق بوظيفة محاسب فى دار الكتب والوثائق القومية – وصل إلى منصب مدير عام - فى الوقت الذى يتم فيه استدعاؤه إلى الخدمة العسكرية عقب هزيمة يونيو مباشرة، ليشارك فى حرب أكتوبر 1937 ضمن قوات الجيش الثانى.
بروح طيبة وعقل متزن لقن إبراهيم أشقاءه الستة الذين يصغرونه المبادئ الأولى لاحترام العقل، إذ كان يشدد على أنه ما من شىء غير قابل للاختبار العقلى، وأننا لن نتطور إذا خاصمنا فضيلة إعمال الذهن وتنشيطه. ولأنه يكبرنى بنحو 16 عاماً، فقد كنت أعشق الجلوس إليه وأطرح عليه الأسئلة التى تستبد بعقلى وأنا طفل وصبى، ولأنه أدرك قيمة الفنون والآداب فى تهذيب المشاعر والسمو بالوجدان، فكان يطلب منى أن أكتب قصائد أم كلثوم وهى تشدو بها فى الراديو – لم يكن عمرى قد تجاوز الثالثة عشر آنذاك – ثم يشرح لى الأبيات بهدوء وجمال وحذق، ولك أن تتخيل مشاعر صبى يحفظ ويفهم قصائد (سلوا قلبى/ ثورة الشك/ الأطلال) وغيرها!
الأمر نفسه فعله مع ابنيه آمر مهندس الديكور والمخرج الصحفى وأريج المحامية والصحفية، وكلاهما تشرب منه حب الحكمة واحترم العقل.
المدهش فى هذا الرجل العجيب أنه ما من أحد اقترب منه إلا وتعلم أشياءً، فكأنه شعاع نور طيب يبدد ظلمة العقل، وقد تجلى لى ذلك حين التقيت كثيراً مع أصدقائه وزملائه فى العمل.
فى العاشرة من صباح 12 أبريل 2011، وبعد ليلة ساهرة قضاها فى متابعة تطورات الثورة المصرية ومستجداتها، ارتدى ملابسه ضابطا أناقته المعهودة، وخرج من منزله بالمعادى الجديدة متوجها نحو البنك. فى أثناء وقوفه منتظرًا تاكسى انتابته أزمة قلبية مفاجئة، فسقط فى الشارع العام، ليجود بأنفاسه الأخيرة بعد لحظات، فى مشهد نادر المثال، أو كما قال لى الدكتور صابر عرب والأديب الكبير يوسف العقيد اللذان حضرا إلى المسجد ليقدما لى العزاء فى وفاته (إنها أفضل ميتة)!
كان أبى المعلم الأول، أما أخى إبراهيم فهو المعلم الثانى بامتياز، فليرحمه الله.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
تعيش وتفتكر ياعزيزى - البركه فيك وفى اخوته واحبابه الذين يحملون راية علمه وفكره وحكمته
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
رجعتنا للزمن الجميل زمن العلم والود والنقاء والبحث عن المعرفه فى كل المجالات
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
وحيد
اللة يرحمة
رحمة اللة عليةوعلى اموتنا جميعا