هكذا تبدأ دورة القمع والمنع.. تختبر السلطة رغبتها الجديدة فى «فرقعة بالونة» يلقى صوت انفجارها استحسانا لدى الجمهور، يفرح الجمهور لأن السلطة استجابت لرغباته وتوافقت مع مزاجه الشخصى، ويظن أنه قد ربح الحرب، بينما الحقيقة أنه قد ربح جزءًا من معركة صغيرة تافهة كسب من ورائها غنيمة وهمية هى خضوع الحكومة لرغبته، بينما السلطة تربح الجائزة الكبرى، جائزة الاعتراف الشعبى بحق السلطة فى الوصاية والرقابة ومنع ما قد تراه متناقضا مع مصلحة الوطن وأخلاق المجتمع.. ومن هنا ينطلق أول الخيط، هذا الفيلم ممنوع، وهذا الكتاب محظور، وتلك الضحكة رقيعة لا تناسب مجتمعنا، وهذا المسلسل مرفوض لأن به مشهد اغتصاب رجل أمن لفتاة، وهكذا وهكذا، حتى يأتوا على آخر ما فى بكرة الخيط من حرية.
لا السبكى يستحق الدفاع عنه، ولا هيفاء تستحق أن نقف من أجلها متظاهرين، ولكنها الحرية يا سيدى، تلك المعركة القديمة بين المواطن والسلطة، المواطن الذى يأمل فى مجتمع بلا خطايا، والسلطة التى تستغل أحلامه هذه فى تمرير عبارة خبيثة تقول بأن من يحكمون يعرفون أكثر، وبالتالى تجوز لهم الوصاية على اعتبار أن السبيل الوحيد لنشأة المجتمع العفيف يمر من فوق جسر امتلاك الحكومة لسلطة المنع والسماح وفق ما يراه الحكام الأوصياء.
من يظن أنه قادر على مخالفة الدستور والقوانين بحجة الحفاظ على أخلاق المجتمع ويمنع فيلم حلاوة روح، فسيؤمن ولو بعد حين بأنه قادر على منع جريدة أو فيلم ينتقد السلطة بحجة وجود صورة عارية أو مشهد غير ملائم أو فكرة هدامة بين طيات المشاهد، ووقتها لن تستطيع أن تشكك فى وصايته، لأنك سبق أن قد منحتها إياه عن طيب خاطر واستقبلت ما نتج عنها من قرارات بمنتهى الترحاب والفخر.الحديث يطول عن الحل، سيتضمن الكثير من الكلام عن احترام القوانين، وعن الاهتمام بالتعليم، وتجديد الخطاب الدينى، لنشر وعى سليم فى شوراع مصر، وسيتضمن أيضاً اهتمام الدولة بتطوير ودعم صناعة السينما لتنتج ما يغنى الناس عن الردىء، قائمة الحلول والعلاجات النافعة التى تستخدمها الدولة المتحضرة طويلة وليس من بينها المنع، أو مخالفة القانون أو الدستور وقرار رئيس الوزراء دهس أول ما دهس الدستور الذى أقسم هو على احترامه وتنفيذ ما ورد به من تعليمات، لأن قراره بمنع «حلاوة روح» يتنافى تماما مع المادة 67 التى تقول بأن حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة.
كان الأولى برئيس الوزراء أن يمارس مهامه ويسارع بمحاسبة موظفيه أو فتح تحقيق موسع عن كواليس ما دار فى الرقابة حول هذا الفيلم، كان الأولى به أن يسأل موظفيه فى الرقابة كيف تم تمرير هذا الفيلم إلى دور العرض؟ كان الأولى به أن يعالج قصور مؤسساته أولاً قبل أن يلجأ لحل المنع تحت شعار الحفاظ على قيم المجتمع، مثله مثل عبدالله بدر الذى ظن نفسه وصيا وأراد منع الأفلام للحفاظ على أخلاق المجتمع أيضاً، وكأن المجتمع طفل صغير يحتاج إلى من يخبره ماذا يفعل ومتى، الفرحون بقرار مجلس الوزراء هم أيضا فى مأزق أخلاقى حقيقى، لأنهم هتفوا وهللوا لحركة قمعية اتخذتها السلطة لمجرد أن القرار توافق مع هوى شخصى أو جاء متناسبا مع حساباتهم الفكرية والأخلاقية مثلهم مثل عشرات الآلاف من أبناء التيار الإسلامى الذين رأوا عبدالله بدر بطلا لمجرد أنه هتف بمنع أفلام إلهام شاهين.. ليس من حقك أن تفرح بقرار الحكومة تحت شعار محاربة الإسفاف لأنك لن تستطيع وضع مفهوم واحد أو تعريف واضح لما هو إسفاف وما هو ليس إسفافاً، لأن ما تراه أنت إسفافا يراه الآخرون ليس كذلك، وما تراه أنت فعلا فنيا يمر وتستمتع به يراه آخرون قمة الإسفاف، فلماذا تفرح بقررا محلب وتعتبره انتصارا لك، بينما لو اتخذت نفس السلطة قرارا بمنع فيلم آخر يراه قطاع شعبى إسفافا ولا تراه أنت كذلك ستصرخ قائلا: «ليس من حق السلطة المنع»؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة