المتابع لأخلاقيات المصريين خلال السنوات العشر الأخيرة سيكتشف تغيرا نوعيا أصابها، قد يعتبره البعض ناتجا عن الظروف المعيشية أو حالة الظلم الاجتماعى الذى يواجهه المواطنون وخاصة المطحونون منهم والمهمشون، وكثير من أبناء الطبقة الوسطى.
لكن أحدا لم يلتفت جيدا إلى متغير جديد ظهر فى مجتمعنا وفرض نفسه عنوة علينا، وهو الميكروباص، وظنى أنه لو ركز علماء الاجتماع وأساتذة النفس فى تحليل تأثير هذا المتغير على المجتمع فسيكتشفون حقى أن هذا المخلوق الصندوقى اللا أدمى المسمى بالميكروباص تحول من وسيلة نقل للركاب إلى ثقافة طاغية فى البلد، الجميع يلجأون إليها، ويتعلمونها، ويتعرفون على أدق تفاصيلها ليطبقونها فى تعاملاتهم.
منذ 6 سنوات كتب الزميل المبدع المظلوم حمدى عبد الرحيم كتابا بعنوان "فيصل – تحرير" كان تركيزه الأساسى فيه على حكايات مصر التى يرصدها من داخل الميكروباص الذى أدمن عبد الرحيم استخدامه كوسيلة تنقل منذ أن وصل إلى القاهرة قادما من بلدته فى مركز القوصية بأسيوط.
لكن يبدو أن حمدى الآن مطالب بطبعة جديدة من الكتاب ينزل فيها إلى الشارع ليرصد لنا بلاوى زمن الميكروباص على الأرض، فلم نعد فقط نركب الميكروباص، وإنما هو الذى ركب دماغنا، وعشش داخلنا، لم يعد الميكروباص يسير فى شوارع القاهرة الكبرى، وإنما يسرى فى دمنا وشرايينا، والدليل أن المجتمع كله أصبح الآن يتحرك كما الميكروباص، ليس فقط أهل المناطق المهمشة والفقراء، وإنما السياسيون وكبار البلد والأحزاب والجماعات المتطرفة، فالكل يعيش حالة الاستهبال الميكروباصى، العشوائية المتناهية، التجاهل الكامل لكل قواعد المرور وكل نصوص القانون، وكل أصول الدور والرفض التام لكل حقوق الآخرين فى الطريق، البلطجة بالحق والباطل، أخذ الحق وغير الحق بالعافية ولى الذراع، التحدى السافر للجميع، سرقة الطريق وفرض الأجرة على الزبون، العمل بمبدأ اللى عاجبه، وهى كده، استخدام قاموس خاص جدا من الألفاظ التى لم نعرفها فى عصر ما قبل الميكروباص.
كل هذه القوانيين الميكروباصية أصبحت ثقافة شارع اجتاحت البلد، لم يعد أحد يرى أننا نعيش فى دولة لها قواعدها وتقاليدها وقوانينها التى يجب أن تحترم، كله بالقوة وضرب النار والقتلى بالمئات، لأن لون الدم أصبح عاديا ولا يهز شعرة فى رأس الميكروباص.
حتى كل ما كان يمكن أن يتحول إلى مظهر جمالى سيطرت عليه الفوضى والعشوائية الميكروباصية مثل لوحات الإعلانات وواجهات العمارات وتنسيق الشوارع، وملابس المصريين أنفسهم، كوكتيل عشوائية يصيب العين بالمرض الرعاش.
عندما تسأل سائق ميكروباص لماذا تمارس هذه الثقافة يرد بسرعة بديهة "أنا مظلوم" مش كفاية إنى بأسوق طول النهار علشان أكل العيش، وبالطبع لازم نكمل الكلام فبجانب أكل العيش يوجد أيضا شرب البانجو وتعميرة الحشيش، وبلع الترامادول.
ونفس الإجابة تجدها منقوشة بالحرف عندما تسأل أى مواطن عن عشوائيته وعدم اكتراثه بحق البلد عليه، لو طلبت ترشيد استهلاك المياه يحلف بالطلاق أن يزيد استهلاكها بالعند فى الحكومة الفاشلة، ولو ناشدته تخفيف أحمال الكهرباء تجده مستعد أن يدفع ما فى جيبه من أجل شراء أعداد إضافية من اللمبات غير الموفرة ليغيظ بها كفار الدولة اللى ما بيرحموش، هو بالظبط نفس سلوك سائق الميكروباص، الذى يكسر الإشارة عندا فى رجل المرور، ويتلوى بسيارته فى الشارع كما الثعبان من أجل التباهى بالقوة والمهارة فى سرقة الطريق.
فالعلاقة واضحة بين سائق الميكروباص والمواطن اللى كان "محترم" والسبب فى هذه العلاقة تعرفه عندما تطلع على الأرقام التى تكشف أن الميكروباص ينقل يوميا نحو 6 ملايين مواطن، كل واحد منهم يتعرض لبلطجة السائق، ويصارع الآخرين من أجل حجز مكان، ويدفع الأجرة غصب عنه، ويقبل تقطيع الطريق من غير ما يقول "بم" يعنى من الآخر يشربون المر صباح مساء، وبطبيعة "البنى أدمين" فكل هؤلاء تتولد لديهم رغبة الانتقام وطالما إنهم لا يستطيعون ممارسة الانتقام من سائق الميكروباص، فهم يمارسونها على الغلابة من بقية المواطنيين، سواء فى العمل أو فى الشارع أو فى البيت خاصة لو كانت الزوجة ضعيفة.
إنها ثقافة الميكروباص سلطان زمانه وملك الشوارع، ولسة ياما فى الجراب يا شارع، فثقافة التوك توك تزحف علينا الآن بسرعة الصاروخ ويبدو أنها ستهزم الميكروباص شر هزيمة، وبالتالى أيامنا الجاية "سودا" بلون التكاتك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة