هيبة الدولة لم تضع فقط فى مجزرة أسوان الأخيرة التى راح ضحيتها 26 مصريا، بل ضاعت فى مناسبات كثيرة منذ 25 يناير 2011 عندما سمحت الحكومات المتتالية بما فيها المجلس العسكرى بانتشار الفوضى والانفلات الأمنى والأخلاقى والاجتماعى بحجة أن الشعب فى ثورة ومن حقه ممارسة أى شىء وفى أى مكان دون مراعاة لقانون أو تشريعات أو لسلطة دولة، تساهلت فى أداء دورها للحفاظ على كيان مؤسساتها وفرض هيبتها بقوة القانون. فالثورات فى العالم لم تكن أبدا ضد القانون العام أو ضد مؤسسات الدولة ومرافقها الحيوية أو ضد أمنها وسلامها الاجتماعى.
هيبة الدولة ضاعت فى البداية مع عصام شرف أول رئيس وزراء بعد 25 يناير فى أول واقعة يطأ الناس بأقدامهم القانون ويضربون به عرض الحائط دون أن تنتفض الحكومة دفاعا عن هيبتها وحفاظا على القانون وردع الانفلات. ضاعت الهيبة عندما سمحت حكومة شرف لعدد من أهالى قنا بقطع خطوط السكك الحديدية بين القاهرة وأسوان اعتراضا على تعيين محافظ قبطى، وكان الخضوع والسكوت والصمت المتخاذل أول ضربة معول فى جدار هيبة الدولة الذى تداعى بعد ذلك، وبرر وقتها عصام شرف الاستجابة لمطالب أهالى قنا رغم تعديهم وتجاوزهم «بأن الشعب جريح وفى ثورة ويجب الصبر عليه». هذا الصبر والتراخى استمر بعد شرف ووصلنا معه الآن إلى مجزرة أسوان التى تؤكد شيئا ليس بجديد هو فشل الحكومة بأجهزتها التنفيذية فى المحافظة فى مواجهة مجزرة قبيلتى الدابودية والهلايلة وكتابة نهاية هيبة الدولة فى الصعيد.
مأساة أسوان لا بد أن تكون جرس إنذار قوى للدولة بأن غيابها التام عن محافظات ومدن وقرى الصعيد طال أكثر من اللازم، فالغياب مستمر منذ أكثر من 30 عاما، ووجودها طوال تلك الفترة اقتصر فقط على التواجد الأمنى الذى فشل فى صيانة وحماية الأمن والسلم الاجتماعى للدولة بل ساهم فى تعزيز روح القبلية والعصبية وتقاعس عن تطبيق القانون لصالح مجالس العرف التى عادة ما تتحكم فيها كبار العائلات والقبائل فى الصعيد ولا تحقق فى كثير من الأحيان العدالة المطلوبة لجميع الأطراف. هذه المجالس ترهلت وأصابها الضعف بعد 25 يناير بعد أن أصبح السلاح هو لغة الحوار والتخاطب بين الناس فى الصعيد. وبدأ الغياب ونتائجه المرة واضحا. وتضافرت كل عوامل الغياب الأمنى والاقتصادى والاجتماعى لتفجير الأوضاع فى ظل حالة الانفلات التى سادت مصر بعد 25 يناير.
الأوضاع الآن تتطلب عودة الدولة ليس بالأمن وحده أو جلسات الصلح التى ستساهم فقط فى التهدئة دون الحل الحقيقى. الصعيد المجهول لكثير من المسؤولين فى الحكومة والذى أهملته حكومات السادات ومبارك وأدرات له ظهرها فى انتظار إنقاذه من براثن الفقر والبطالة والعنف والإرهاب، قبل أن نصحو ونفيق على كارثة أخرى أشد وطأة من مجزرة أسوان، كارثة الحرب الأهلية والقبلية ونعرات الانفصال عن الدولة.
صعيد الخمسينيات والستينيات مازال يعيش على ذكريات هيبة الدولة فى عهد عبدالناصر التى فرضها بالتنمية الحقيقية من صحة وتعليم وفرص عمل فى السد العالى وفى مصانع الألومنيوم والحديد والصلب وفى التنمية الزراعية، وبوعى سياسى وإدراك وطنى رغم كل تعقيدات الوضع الاجتماعى والتركيبة القبلية المعقدة فى الصعيد. نجح عبدالناصر فى تقوية الصعيد لحماية الوحدة الوطنية فى مواجهة أية أيادٍ عابثة فى مصر تسعى إلى تمزيق وتفتيت الدولة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة