هناك مفارقات يكشفها تأمل الصراع القبلى والعائلى فى الصعيد، وآخرها حرب الدابودية والهلايلة، وهى مفارقات تطرح أسئلة لايفكر كثيرون فى الإجابة عنها ويفضلون الإجابات الجاهزة.
القضية فى هذه الصراعات ودوائر الثأر والانتقام، أكبر من مجرد حكومة ودولة وسياسة لكنها موضوع وعى. تكشف إلى أى مدى غاب التحديث عن عالم الصعيد، الذى يردد كثيرون مقولات محفوظة عن أن به أكبر نسبة فقر فى بر مصر. وعلى سبيل المثال فإن نسبة الفقراء فى محافظة أسيوط 60%، حسب أرقام جهاز الإحصاء، لعامى 2012 /2013، وأسيوط تعتبر أعلى محافظات مصر من حيث نسبة الفقراء، تليها قنا ثم سوهاج.
لكن المفارقة أن أعلى نسبة امتلاك سلاح فى هذه المحافظات تشير إلى أن عددا لا بأس به من الفقراء بهذه المحافظات، يمتلكون سلاحا، يتراوح بين البنادق الآلية، والمدفعية، وأن الطبقية بالصعيد تتجلى حتى فى السلاح، لنجد رب أسرة لايمتلك قوت يومه، لكنه يمتلك سلاحاً بعشرات الآلاف. وإذا تم حساب كميات وقيمة السلاح فى محافظات الصعيد الفقيرة نكتشف أن قيمتها تكفى لتنمية هذه المحافظات جميعاً.
وهنا يبدو الفقر فى جزء منه فشلا فى التنمية واختلالا فى ميزان العدالة، لكنه أيضاً اختلال فى موازين الأولويات لدى المجتمع بفصائله المختلفة. يضاف إليها أيضاً أن فكرة امتلاك السلاح، ترتبط بهجرة مستمرة للنخب المثقفة والمتعلمة التى تترك الصعيد باعتباره طارداً، وتتمركز فى القاهرة أو الإسكندرية وباقى المحافظات، بينما تبقى نفس قيم التخلف الاجتماعى والقبلية والعائلية مستمرة غير قابلة للحل.
وربما على هؤلاء الذين يرددون المحفوظات عن الفقر فى الصعيد، يتجاهلون كون هذه المحافظات تستقبل سلاحاً بالمليارات سنوياً، بينما تفتقر إلى «ملاليم التنمية»، والمثير أن ظاهرة التسلح تنتشر بشكل كبير فى دول تعانى من الفقر والتفكك، فالصومال على سبيل المثال سوق للسلاح، بينما ليست سوقا للاستثمار أو التنمية، والموت صناعة لتجار السلاح فى العالم، ممن يذرفون الدموع على الضحايا.
الحرب بين الدابودية والهلايلة تكشف عن حالة من التعصب والجهل، وطريقة تفكير تجعل الفقير يحرص على شراء سلاح أكثر من امتلاك طعام. أو تنمية المجتمع. وهى تفاصيل تشير إلى وجود خلل اجتماعى، يقع جزء منه على الدولة، وجزء أكبر على سياق اجتماعى يحتاج إعادة نظر واعتراف بواقع بائس.