يعود البابا تواضروس إلى أرض الوطن بعد زيارة ذات أهمية خاصة للإمارات العربية المتحدة، وفى أول تصريح من قداسة البابا فور وصوله لأرض الإمارات قال «كنت أشتاق لهذه الزيارة.. الإمارات أول دولة عربية دعتنا لزيارتها.. هذه الدعوة الكريمة من الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان الذى نصلى لأن يعطيه الله الصحة والعافية».
وأضاف فى لقائه مع المصريين: «الإمارات صارت عنوانًا للتسامح والمحبة والقلب الكبير، وعندما وصلت إليها أردت فى البداية زيارة ضريح الشيخ زايد الكبير، ولفت نظرى فى هذا المكان الجميل الرائع اللون الأبيض الذى يعبر عن القلب الأبيض الكبير الذى يمتلئ بالمحبة ويمتلئ بمعدن الطيبة والأصالة».
وبالنظر إلى الوفد المرافق لقداسة البابا تواضروس الثانى، نجد أنه اصطحب معه مهندسى العلاقات القبطية الأرثوذكسية الإماراتية، فالأنبا إبراهام أسقف الكرسى الأورشليمى والأنبا إبرام أسقف الفيوم، والأنبا لوكاس أسقف أبنوب والفتح، والأنبا جوارحيوس أسقف مطاى، خدموا سنوات عديدة بالإمارات وفى كنائسها، إضافة لظاهرة جديدة وهى اصطحابه الأستاذ هانى نجيب «شماس» ولكنه أيضا أحد مهندسى العلاقات الكنسية الإماراتية، الذى عاش عشر سنوات فى الإمارات، وكان مقربا من الأسرة الحاكمة والكنيسة فى آن واحد، إضافة إلى سكرتارية البابا القمص أنجيلوس والقمص أمونيوس، أيضا اللافت للنظر أن الصحافة ووسائل الإعلام المصرية المختلفة، ومنها التليفزيون المصرى الرسمى قد واكبت زيارة البابا ونقلت عنه، كما لو كانت الزيارة زيارة رئاسية، فقد أرسل الشيخ خليفة بن زايد طائرة خاصة لتصطحب قداسة البابا والوفد المرافق له إلى الإمارات، وهى المحبة التى عبر عنها قداسة البابا بزيارة ضريح الشيخ زايد آل نهيان فى مسجد الشيخ زايد، الرجل الذى أوصى من يخلفه بالشعب المصرى، وبالطبع احتفت الصحافة ووسائل الإعلام الخليجية بتلك اللفتة التى تبلغ ذروة السماحة القبطية الإماراتية، واندهاش الصحافة ووسائل الإعلام الغربية، تلك التى لا تدرك ماهية السماحة القبطية الباباوية، فالبابا هو من قال فى أعقاب هجمات الإخوان المسلمين وحرقهم لعشرات من الكنائس «سنصلى فى المساجد»، فى دلالة واضحة بأن علاقة المسلمين والمسيحيين المصريين مختلفة عن رؤية الغرب لهذه العلاقة.
من آل نهيان لبابا العرب:
لم تكن زيارة قداسة البابا تواضروس الثانى للإمارات هى الأولى، أو التأسيسية، بل نشأت العلاقة القبطية الإماراتية منذ تطلع الشيخ زايد، رحمه الله، نحو المستقبل الذى لم يقتصر فقط على دولة موحدة تشمل الإمارات المتصالحة، وهو الاسم الذى كانت تحمله الإمارات قبل الوحدة عام 1971، وبفضل جهود الراحل العظيم توحدت دولة الإمارات لتصبح الإمارات العربية المتحدة، وبدأ الشيخ زايد التحدى الحقيقى الذى واجهه بجسارة الفارس العربى، فالدولة الوليدة التى تنتمى إلى العصور الوسطى يجب أن تقتحم العصر الحديث وتوفر لمواطنيها مستوى عاليا من الرفاهية كضمان للوحدة.
وفى تطلعه هذا، توجهت عينه نحو مصر، كبيرة العرب، وبدأ تدفق المهندسين والأطباء والمعلمين وأساتذة الجامعات والعمال إلى الدولة الوليدة لبناء وطن شقيق، وبالتأكيد كان من بين هؤلاء المصريين مواطنون من الأقباط.
ونظرا لعدد الوافدين الكبير الذين تستقبلهم الإمارات والمعتنقين لديانات أخرى غير الإسلام، اتبع حكام الإمارات سياسة التسامح الدينى مع الوافدين مع السماح لهم ببناء دور عباداتهم وممارسة شعائرهم الدينية بحرية تامة يشهد لها القاصى والدانى.
وفى الوقت الذى كان يترأس فيه دولة الإمارات زعيم عربى حقيقى كان يترأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية رجل وصف ببطريرك العرب، نظرا لمواقفه المشهودة فى خدمة القضايا العربية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فجاءت كيمياء الرجلين متوافقة، وفى عام 1979 حينما كانت العلاقات العربية المصرية مقطوعة بسبب توقيع اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل، كانت العلاقات الإماراتية الكنسية فى معزل عن العلاقات الإماراتية المصرية، وجنى البابا شنودة الثالث وقتها ثمار موقفه من رفض معاهدة كامب ديفيد وموقفه من التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلى، وفى عام 1979 تم رفع أول صلاة قبطية فى دولة الإمارات فى قاعة تم استئجارها لإقامة الصلوات بها بعد أن تم تسجيل الطائفة القبطية الأرثوذكسية فى وزارة الأوقاف الإماراتية.
وتطورت العلاقات بين دولة الإمارات والكنيسة المصرية من أفضل إلى أفضل، ونتج عن تلك العلاقات القوية وجود عدد من الكنائس القبطية الأرثوذكسية فى دولة الإمارات وتحديدا فى أبوظبى والعين والشارقة ودبى، ودشن البابا شنودة الثالث زيارات بطاركة الإسكندرية إلى دولة الإمارات فى عام 2007 كدليل على الروابط الوثيقة بين دولة الإمارات والكنيسة المصرية.
من بابا العرب للبابا الثورى:
منذ حكم الإخوان برز على السطح الموقف الثورى للبابا حتى قبل أن يجلس على كرسى مارمرقص، وبعد اعتلائه لكرسى مارمرقص قبيل أن يجلس على كرسيه الجديد انسحبت الكنيسة من الجمعية التأسيسية للدستور، فى موقف ثورى رافض لهيمنة قوى الظلام على مصر، ثم تصريحاته المتتالية ضد الحكم الإخوانى، حتى وصل الأمر باتهام الإرهابى خيرت الشاطر للكنيسة بأنها توجه الأقباط ضد حكم الإخوان.. وأن %80 من المتظاهرين أمام الاتحادية من المواطنين المصريين الأقباط!!
ولذلك لم يكن غريبا أن يعاقب الإخوان الإرهابيون الأقباط عقابا جماعيا، ولكن الأقباط بشهادة اللواء مراد موافى فوتوا الفرصة على من يريدون تقسيم مصر وتصدوا لمخطط التقسيم وأجهضوه.
وبعد 30 يونيو ونجاح الشعب المصرى فى إزاحة الإخوان عن حكم مصر، ما جعل الولايات المتحدة وحليفتها أوروبا تعتبر تدخل الجيش فى عزل الرئيس المعزول محمد مرسى انقلابا عسكريا، وحجبت المعونة العسكرية عن مصر ومارست ضغوطا كبيرة على مصر، هنا ظهر بوضوح جودة معدن الأشقاء الإماراتيين بتوجيه المليارات من الدولارات نقديا أو عينيا مما دعم الاقتصاد المصرى الذى كان على شفا الانهيار، واستمر دعم الإماراتيين لمصر ولعبت الدبلوماسية الإماراتية دورا كبيرا فى توضيح حقيقة ما حدث فى مصر، وكما أعلن المرشح الرئاسى المشير عبدالفتاح السيسى أن ما قدمته الإمارات ودول الخليج إلى مصر أكبر بكثير عما هو معلن، وهو الرجل الذى كان فى موقع المسؤولية مما يجعل من كلامه مرجعا قويا.
من يونيو إلى الإمارات:
تلك هى الخلفية التى دعمت وأسست تلك الزيارة، وليس سرا أن دولة الإمارات العربية قد عرضت المساعدة المالية فى بناء ما دمره الإرهاب، ولكن الكنيسة شكرت الإمارات لأن القوات المسلحة المجيدة قد وعدت بذلك.
هكذا تعد هذه الزيارة بداية لدور إقليمى للبابا تواضروس، وللكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تعقبها أدوار أخرى إقليمية ودولية، مثل الزيارات المقبلة للبابا لروسيا الاتحادية، وإثيوبيا بعد انتهاء الاستحقاق الرئاسى.
بذلك تعود الكنيسة للعب دورها الوطنى على الصعيد الخارجى، حيث يتقدم البابا أمام الرئيس القادم ليعد له الطرق.