منذ عدة سنوات قليلة قبل الثورة كنت مدعوة من قِبل وزارة الثقافة لزيارة شارع المعز فى القاهرة الفاطمية، بعد ترميمها، وتجديدها، وإزالة غبار الزمن عنها، وتصادف أن أتت الزيارة قبل ساعات الغروب بوقت قليل، وكان من حسن حظى أنى فى هذه الرحلة أجلس إلى جوار رجل وفنان نادر فى تاريخ مصر، وهو الراحل صلاح مرعى، أحد أهم مهندسى الديكور وتنسيق المناظر فى تاريخ السينما العربية.
وعلى كلٍ، فقد استغللت تلك الزيارة ومصاحبتى له فى أن أستزيد من التاريخ الذى كان يعرفه عن كل بقعة فى المكان، وحين بدأ ضوء الشمس يغيب تمت إنارة المكان ونحن نسير فلاحظت أن اللمبات التى تضىء المكان قليلة جداً وصغيرة جداً أيضاً، ورغم ذلك فإنها كانت كافية جداً لكى أرى بوضوح كل تفصيلة فى الشارع، وعلى المآذن وعلى الحوائط وفى المحال المختلفة، فألتفت لصلاح مرعى أستوضح منه وأعلق كيف أن الإضاءة قليلة، ورغم ذلك كافية وواضحة، ولم يكن وقتها أحد فى مصر يتحدث عن أزمة طاقة أو انقطاع تيار، ولكن مجرد الفكرة فى تنفيذ الإضاءة لفتت انتباهى، وراح مرعى يقول لى: كيف أن الإضاءة فن وعلم، وأنها ليست كما نفهمها نحن، ونفعل حتى فى بيوتنا حين نضع لمبات قوية وعالية الطاقة للإضاءة، متصورين أن هذه هى الوسيلة المثلى للإنارة، واكتشفت أن صلاح مرعى هو من صمم إضاءة المكان، وراح يحكى لى عن عذاباته مع تجار وأصحاب محال الشارع فى البداية، حين أراد أن يلزمهم بنفس الشكل فى الإنارة والدرجة، وكيف أنهم قاوموا مقاومة كبيرة، لأنهم تصوروا أن هذه الدرجة من الإنارة والضوء لن تلفت انتباه الناس لمحلاتهم، ولكنهم بعد إصرار وتهديد قبلوا، ثم اكتشفوا بعد تنفيذها أنها كافية وجيدة لعرض بضاعتهم للجمهور، وتكلفتها أقل، وفى نهاية حديثنا عن هذا الموضوع قال الفنان المصرى العظيم لى: هل تدرين أن الإنارة التى يضعها محل عصير القصب واحد أو العصائر المختلفة تساوى طاقة تكفى لتشغيل مصنع بكامل طاقته، وأننا فى بلد ليس لها من مثيل فى إهدار الكهرباء، فكشك سجاير يحصل على طاقة تكفى مصنعا صغيرا. وكما ذكرت سابقاً ففى ذلك الوقت لم يكن أحد على الإطلاق يتحدث عن الطاقة الضائعة وأزمتها، ولكنى منذ ذلك اليوم وكلما مررت بأحد محلات العصير أو الكشرى أو حتى كشك صغير أمامه ضوء مبهر أتذكر صلاح مرعى، وأقول: «منكم لله يا مهدرى الطاقة، أما وقد صرنا نعيش فى ظلام فإن إنارة هذه المحال وما مثلها لم تعد تكفيه دعوة منك لله، ولكنه إجرام يجب أن تواجهه الدولة والمحليات بحزم».. رحم الله صلاح مرعى، ويرحمنا ربنا من بتوع العصير واللى زيهم.