أشعر بالأسف والحزن على المصير المأساوى، الذى آل إليه الشيخ القرضاوى فى أيامه الأخيرة، فقد صار مثل حفار القبور الذى يكفّن الحياة ويردمها بالتراب، لا يعرف معنى كلمة وطن، ولا يشعر بقيمة مصر وعظمتها وخلودها، وحشر نفسه فى قبره الذى حفره لنفسه، متصورا أن الحياة توقفت يوم رحيل الإخوان وعزل رئيسهم، وأن الدنيا لن تعود إلا إذا عادوا مهما كان الثمن حتى لو كان فوق جثة الوطن ودماء المصريين، ومن ظلمة مقبرة الغل والانتقام، يتحدث القرضاوى ويتشنج ويتحشرج صوته، فاقدا أهم مميزات الداعية وهى السماحة والحكمة واللسان الذى لا ينطق إلا مكارم الأخلاق، هو لا يعرف معنى كلمة وطن، والوطن معناه الأرض والشعب والسيادة، والأرض عنده وجماعته للإخوان وليست للمصريين، فلا يعتبر رئيسهم المعزول التفريط فى حلايب وسيناء خيانة عظمى، بل «أرض المسلمين لكل المسلمين»، ولا يعتبر الشعب السيد ومصدر السلطات، بل رعية عليهم طاعة أولى الأمر، أما الدولة فليست الجيش والقضاء والسلطة، بل الميليشيات وبيت المقدس والجيش الحر وحماس والقاعدة، والعصابات الإرهابية التى يحركها بفتاويه الشيطانية، فتراق الدماء وتزهق الأرواح وتزرع الخراب.
هو لا يشعر بقيمة الوطن لأنه لم يعش فيه، بل فر منذ نصف قرن إلى قطر، يقيم فى فنادقها ويغرف من أموالها ويأكل طعامها، لم يعش مع أبناء وطنه على الحلوة والمرة، فكيف يشعر بهمومهم وآلامهم وأفراحهم وأحزانهم بعد أن صار مصريا مع وقف التنفيذ، يحركه «ننوسة أمه تميم» ومن قبله والده اللعين، ليسب مصر ويهين شعبها ويسخر بمشاكلها، ويستعدى الجيوش الأجنبية لغزو أراضيها، ويهين شيخ الأزهر وعلماءه الأفاضل، وغير ذلك من قواميس التحريض التى يتفوه بها لسانه السليط.
وعندما يتحدث عن رئيسه المعزول كأن أبوه مات «فطيسا» فى حارة الفتوات ويدخل فى نوبة بكاء شرعية حول الشرعية، غير واع بأن أراءه السامة كفيلة بأن تسقط عنه وعن معزوله وأهله وعشيرته وجماعته ورقة توت الشرعية التى يدارى بها انتهاكات كثيرة ارتكبوها فى حق مصر وشعبها، لكنه لا يعى أن شرعية الأوطان خالدة والأفراد إلى زوال، لأنه لم يسمع يوما محمد عبدالوهاب وهو يشدو «ليه بس ناح البلبل ليه فكرنى بالوطن الغالى»، فهو لا يطرب إلا لنعيق الغربان وحفيف الخفافيش التى تصيح «شكويف.. شكويف».
أما آخر درر القرضاوى فهى دعوة المصريين إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية، لأنها «حرام شرعا»، وهنا نقول له: إنك فاقد الشرعية فى الإدلاء بفتاوى شرعية لأنه يوظف أحكام الشريعة فى غير مقاصدها ومراميها، فيحظر المباح ويبيح المحظور ويوظف النصوص لخدمة أهدافه ومقاصده الشخصية ولا يبغى إلا السلطة والجاه والسلطان، وهو يعلم جيدا أن فتاوى الفتن والتحريض أراقت من دماء المسلمين أكثر من أعدائهم، وأن مصلحة الأمة وإرادة الناس فوق راغبى السلطة وعبيد الكراسى، وأن المصريين يتطلعون لاستعادة وطنهم والإحساس بالأمن والهدوء والطمأنينة، بعد أن سلبهم مرسى وجماعته الاستقرار وراحة البال، ووزعوهم بين الجنة والنار.
المنتقم يحفر لقبرين له ولعدوه، وقرضاوى عدو نفسه، عاش على أمل أن يعود لمصر غازيا وراكبا حصانا أسود وحوله جنده الملثمين بقناع بيت المقدس وأعلام تنظيم القاعدة، فلما آفاق على هدير الملايين، الذين يصرخون «مصر.. مصر»، أصابته حالة شرود.