كان عنوانا للطيبة والنبل والشهامة، عرفناه فى أول الشباب شاعرا مجيدا لا يريد شيئا من أحد، عرفناه صديقا وأخا وأستاذا يبحث عن الألفة، كان يقطع معنا الشوارع كأنه ابن أيامنا، لم يكن مشغولا بالمجد الذى شغل أبناء جيله، كان يفاجئنا طوال الوقت أنه يتعلم شيئا جديدا، هو ضابط الجيش الذى كان هناك أيام العدوان الثلاثى وفى اليمن، وفى الهزيمة كان من الذين قطعوا المسافة إلى القاهرة على أقدامهم، يومها ذهب إلى الغورية عند أحمد فؤاد نجم وغبار النكسة يغطى روحه، أحيل إلى التقاعد، فقرر أن يدرس الأدب الإنجليزى فى عين شمس، ولم يكتف بذلك، ذهب إلى ألمانيا ليدرس الفلسفة فى جامعة كولونيا، كان ينصت إلى الأصوات الجديدة بابتسامة محببة، دواوينه القليلة تشير إلى ذائقة رفيعة، جلس سنوات مع عمر الخيام.
كان يريد أن يخلص شعره من شحم البلاغة الذى أفسدته الترجمات الموزونة، جلس إلى ترجمة إدوارد فيتزجرالد الإنجليزية الشهيرة، وأنجزها فى لغة نافذة متقشفة عظيمة، وضع النص الإنجليزى فى صفحة أمام ترجمته، فى الطبعات التالية أضاف النص الألمانى أيضا، جلس إلى سونيتات شكسبير وأبدع ترجمة رائقة أخرى، صاحب الأجراس الصدئة وقيامة الزمن المفقود عانى فى سنواته الأخيرة من الوحدة ومن من مرض فى العمود الفقرى أقعده تماما، لم يطلب صاحب رماد العيون واليمامة الخضراء مساعدة أحد، وكان هو الذى يسأل عن أصدقائه، كتب السماح عبدالله أمس أن عمنا الكبير بدر توفيق رحل، تذكرت أولى خطواتى فى القاهرة وابتسامته المرحبة الواسعة.