إن جوهر عملية التجديد هو تجديد فهم الوحى، وبالتالى فإن البوابة الأساسية لعملية التجديد هى إدراك الفرق بين الوحى «آيات القرآن وصحيح السنة» وبين فهم الوحى «الفقه».
فالوحى: هو إعلام الله تعالى للنبى محمد صلى الله عليه وسلم بحكم شرعى وهذا الإعلام نتج عنه آيات القرآن وصحيح الأحاديث قال تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» سورة النساء آية 163، وإعلام الله للأنبياء يكون بطريقة خفية غير معتادة للبشر وتختلف عن الطرق التى يستخدمها البشر فيما بينهم فى الإعلام ونقل المعلومات قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» سورة الشورى 51، وفيما يخص إعلام الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بآيات القرآن كانت الطريقة هى إرسال جبريل عليه السلام بهذه الآيات نقلا عن الله سبحانه قال تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ» سورة الشعراء آية 192:195، وفى صحيح البخارى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضى الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس صوت قوى يشبه صوت الجرس وهو أشده على فيفصم فيذهب عنى وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك جبريل عليه السلام رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول: «قالت عائشة رضى الله تعالى عنها، ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد يتدفق منه عرقا» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام هو نفسه يتلقى هذه الآيات عن الله بطريقة غير معتادة عند البشر كما أخرج الإمام أحمد وأبوداود عن أبى معاوية أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحى سمع أهل السماء، للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء ارتطام الحديد بالحجر فيصعقون كرد فعل لهذا الصوت القوى فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم، قال: ويقولون يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق، قال: فينادون: الحق، الحق» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما يتضح من هذه الآيات والأحاديث فإن عملية نزول الوحى، آيات القرآن إلى رسول الله هى عملية إلهية لم يتدخل فيها بشر تبدأ من عند الله مرورا بجبريل عليه السلام حتى تصل إلى رسوله فيتلقاها عن جبريل، كما هى دون تدخل منه وينتج عن هذه العملية آيات القرآن التى نقلها النبى صلى الله عليه وسلم للصحابة، كما هى وهم نقلوها للتابعين كما هى، وهكذا حتى وصلت إلينا وهذه الآيات القرآنية لم يحدث عليها أى تعديل أو تغيير منذ وفاة النبى وانقطاع الوحى إلى زماننا هذا وسوف تظل هكذا إلى قيام الساعة، وهذه الآيات القرآنية حتى تكون جاهزة للتطبيق العملى بين البشر لا بد من إجراء عملية أخرى عليها ولكنها بشرية بالدرجة الأولى وهى عملية الفقه أو الفهم بمعنى فهم هذه الآيات وما يستفاد منها وبدون هذه العملية لا يمكن تحويل الآيات القرآنية إلى واقع عملى فى حياة البشر.
فالفهم للوحى أو الفقه ليس سوى عملية بشرية يقوم بها العقل البشرى المتخصص من خلال النظر فى الوحى لاستخراج المضامين والمعانى المناسبة للزمان والمكان، بمعنى أصح الفهم ليس سوى قراءات اجتهادية بشرية للوحى فى مراحل زمنية معينة، وبمجرد أن تتغير الظروف والأحوال سيكون فى الوحى مضامين جديدة تحتاج إلى إعمال عقل من جديد حتى يتجدد الفهم بما يناسب العصر، وكأن الوحى مهيأ لتجاوز الفهم البشرى باستمرار كلما تغيرت الظروف والأحوال بصورة جوهرية، هكذا فإن قدرة النصوص القرآنية التى نزلت فى الماضى على معالجة أوضاع وقضايا الحاضر والمستقبل المتغيرة تنبع من وجود ذلك الاستيعاب لمجمل تطورات الحياة، وهو ما يجعلها بحاجة دائمة إلى اجتهاد وإعمال عقل لتجديد فهم مستمر، ولذلك جاءت أحاديث النبى التى رواها الترمذى والدارمى تخبر: «أن القرآن جديد لا يبلى ولا تنقضى عجائبه» بل ورد أيضا أن معانى وكنوز القرآن التى يظهرها الله يوم القيامة سوف تجعل الناس يكتشفون أن كل الجهود البشرية التى بذلت منذ نزول القرآن إلى قيام الساعة لم تكشف من معانى القرآن وكنوزه إلا قليلا، وأن تجديد الفهم مرتبط ارتباطا وثيقا بما يحدث من تغيرات فى الدنيا، فمعظم المضامين الجديدة فى الوحى تستهدف معالجة التطورات الدنيوية، وهذا يتطلب من المجتمع المسلم عموما انفتاحا على الدنيا واهتماما بشؤونها ومشاركة فى تفاعلاتها الحضارية.
إن الحرية السياسية وتحفيز الشعب على المشاركة توفر فرصا لنمو الوعى والمدارك وتعد أقوى المحفزات اللازمة للاهتمام بالعلوم الدنيوية التى لا يمكن اكتشاف المضامين الجديدة فى الوحى إلا من خلالها، وعندما حجمت هذه الحرية وتم إبعاد الشعوب عن الشأن العام والمشاركة فيه منذ نشوء حكم التوريث العائلى فى عهد بنى أمية، وتدريجيا تكاملت ثم ترسخت قوانين الاستبداد وإبعاد الشعوب الإسلامية عن الشأن العام، أدى ذلك إلى انطلاق الفاعلية الثقافية والعلمية نحو عالم الغيب ونحو القضايا التعبدية والقضايا الدنيوية التى لا تلامس خطوط السياسة أو تدفع باتجاهها وأدى هذا المسار على المدى الطويل إلى تحجيم مكانة وأهمية وجدوى العلوم الدنيوية، وبالتالى تراجعت الأمة الإسلامية بشكل واضح فى أمور ومجالات الدنيا وعجزت بالتبعية عن اكتشاف مضامين الوحى الجديدة التى تعنى فى المقام الأول بالتطورات الدنيوية، وحدث الجمود الدينى وفقد الخطاب الدينى صلاحيته الزمانية والمكانية، ولذلك أقول للمشير عبدالفتاح السيسى، وقد سمعت منه كثيرا أن تطوير الخطاب الدينى فى مقدمة أولوياته، إن هذا يحتم عليه دعم الحرية السياسية وتحفيز المشاركة فى الشأن العام ودفع الشعب إلى الانفتاح على الدنيا وعلومها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة