كنت طالبة لم تتعد سنوات عمرى السابعة عشرة حين التحقت بكلية الإعلام جامعة القاهرة وعرفت واحدا اسمه حمدين صباحى، فمنذ اليوم الأول لدخولى الكلية كان اسم حمدين صباحى ملء السمع والبصر بين طلاب الجامعة وكليتنا بالتحديد، ظللت أسمع الاسم عدة أسابيع حتى التقيت به، فهو صاحب ابتسامة ودودة، وصوت واثق، وعين حادة ولكنها حانية، ولأنى كنت كما يقولون طالعه من بيت أبوها داخلة باب الكلية، أى أننى كنت غضة بلا أى خلفية سياسية أو غير سياسية، مجرد فتاة من أسرة ميسورة، تعليمها أمريكانى، وتحلم بأن تعفر فستانها بتراب مصر حتى تتعلم كيف تكون صحفية بجد، وكانت الجامعة آنذاك تحفل بكل الأطياف السياسية من ناصريين ويساريين وإسلاميين وانفتاحيين وطلبة آخرين شاريين دماغهم، فكان على أن أرقب المشهد وأتعلم ثم أختار مع من أكون.
كانت رحلة عقلية أتعبتنى وعلمتنى كثيراً وكفرتنى من كل صوت يتحدث باسم الله كذباً، وكفرتنى كذلك باليسار وأهله، فنحن شعب ندعو فطرياً بأن يجعلنا الله من أهل اليمين واليسار المصرى أقرب إلى الشخصيات الكارتونية منها للحقيقية، أما عبدالناصر الذى لم أع زمنه على حق ولم أر منه وعنه إلا أفلاما فى ذاك الزمان، تدينه وتدين حكمه، فلم يكن اختيارا صائبا بالنسبة لى، ولكنى اخترت حمدين رغم أن عنوانه كان الناصرية، فلم أختر ناصرا ولكنى اخترت ما يدعو له حمدين، وما يمثله من قيم، رأيت أنها الأصدق، فرغم اختلاف خلفياتنا كان هو دون غيره من الكبار الذى يعبر عندى عن مصر التى أتمناها.
وظلت منذ ذلك الحين علاقتى بحمدين الذى يأخذ دائماً دور الأخ الأكبر وفى لحظات الأب رغم عدم تباعد السن وفى كل اللحظات هو الصديق حتى لو باعدت بيننا الأيام.
انتهيت من الجامعة وباعدت بيننا أحيانا الظروف وتفاصيل الحياة، لكنى كنت أرقبه ولو عن بعد، وأظنه كان يرقبنى كما يرقب غيرى من رفاق، وكنا نلتقى بين الحين والآخر، وأحترم مسيرته وقد أختلف معه، ولكنى كنت أرى فيه ذات الوجه والابتسامة الحانية، وذات المبادئ التى حدثنى عنها صغيرة مع اختلاف الأساليب، فتلك هى السياسة لو تعرفونها، وظل يسكن حمدين فى شقة صغيرة مع أسرته، فكأنه لم يتغير من ابن الصيادين لأحد الأسماء الرنانة فى عالم السياسة.
تفاصيل كثيرة لا يكفيها مقال صغير من الممكن أن أحكيها عن حمدين، ولكنها فى النهاية تصنع منه مسيرة محترمة، دفعتنى لأن أكون من مؤيديه فى الانتخابات الرئاسية الأولى وأرى فيه بين ثلاثة عشر مرشحاً آخر فرصة للتغيير ولكننا لم نفز بهذه الفرصة، وفى السياسة الاختيارات تنبع من اللحظة التى نعيشها.
فتمر على مصر فترة عصيبة يسكنها خفافيش الظلام، ثم يجرى ما جرى، وما عرفناه جميعاً وعشناه، وتأتى انتخابات رئاسية جديدة يكون حمدين أحد طرفيها، ولأن السياسة التى تعلمتها منه تستدعى أحياناً تغيير الأساليب والطرق حسب الظروف، فكنت أرى أن حمدين أخطأ حين غاب ولم يكون حزبا حقيقيا يجمع شتات الكثيرين، ويخرج من عباءة الأحلام لأرض الواقع، وأخطأ فى أشياء أخرى وتغير ريح اختيارى، اخترت السيسى نعم، ولكن أقف إجلالاً واحتراماً لمنافسه الذى مشى على الشوك، وتحمل الكثير والكثير من رزالات البشر والإعلام والزملاء الذين تجاوزوا حتى أخلاقيات الشوارع والحارات.
لم أختر حمدين فى هذه الانتخابات ولكن ابنتى الصغيرة اختارته كما اخترته وأنا صغيرة، وكان حقا لها أن تختار من تريد، وترى فيه حلما تريد تحقيقه لمصر، وأرى أنا طريقا آخر.
حمدين صباحى ترفع عن قلة الأدب، وخاض معركة شريفة، وأتمنى أن يستمر وليكون صوتاً مختلفاً ضد الركب، ومعه من يريد، فهو أبداً لن يكون واحدا خمنا، بل سيظل كما عرفته واحدا مننا، حتى وإن اختلفت مشاربنا وأساليبنا من أجل الأفضل لمصر.
أكتب هذه المقالة قبل حتى فرز الأصوات، وبغض النظر عن النتيجة فإنى اخترت السيسى ليحكم، واخترتك يا حمدين صباحى لتكون عيناً على الحاكم، فتحية إجلال لك، وأتمنى ألا تخذلنى فى اختيارى، وأتمنى ألا تخذل ابنتى وغيرها فى اختيارهم لك، فمصر فى حاجة لحاكم كما تماماً فى حاجة لعيون على الحاكم، حتى لو كنا نور عينيه.