يوم مطير هو.. بركة من الوحل على جانب الطريق صنعتها مياه الأمطار المتجمعة فى ذلك الجزء المنخفض من الشارع، مكونة مزيجًا من الطين والماء وقاذورات الطريق.. من بعيد بدت السيارة القادمة بسرعة جنونية تطاير الماء المختلط بالطين والقاذورات ليصيب المارة الذين قُدر لهم أن يمروا بجوار تلك المخاضة لحظة عبور السيارة المسرعة. وبينما يتأففون لما أصاب ثيابهم من آثار ذلك الوحل، ويحاولون نفض تلك الآثار عنها، إذا ببعضهم ينظرون بحزن ممتزج بسخط، وغضب يائس إلى أثوابهم التى كانت منذ لحظات نظيفة فاخرة وقد تلطخت واتسخت، وبدلاً من أن ينشغلوا بتنظيفها وإصلاح ما ألمَّ بها، إذا بهم يصرخون قائلين: لا فائدة! قد فسد الثوب ولا قيمة لنفض الطين عنه.
الغريب أنهم بعد ذلك اتجهوا والأنظار ترقبهم بدهشة مُنكِرَة إلى بركة الماء والطين ليقوموا بأعجب فعل يمكن توقعه فى تلك اللحظة، لقد قفزوا إلى داخل بركة الوحل، ومرغوا أنفسهم فى الطين المبتل، مرددين منطقهم العقيم: لم يعد شىء يفرق، قد فسد الثوب، ولا قيمة للحفاظ على ما تبقى منه نظيفًا.. «ما هىّ كده كده بايظة»، فلنتمرغ فيها إذًا، ولنودع كل ما تبقى لنا من نقاء ونظافة وطهر تختفى تدريجيًا خلف طبقة من وحلها وقذرها.. طبقة سميكة تتجمع على أجسادهم المتقلبة المتمرغة التى تتحول بسرعة إلى نفس الشكل واللون، وتكاد تختفى تمامًا فيها وتصير جزءًا لا يتجزأ منها.. جزءًا من تلك المخاضة.. ما هىّ كده كده بايظة.
طبعًا لا أحد يتصور أن يحدث هذا فى دنيا العقلاء، ربما فى فيلم هزلى أو رواية ساذجة عن قوم فقدوا عقولهم، أو أصابتهم لوثة أطاشت قدرتهم على التفكير السديد، لكن للأسف البعض يتعامل اليوم بنفس المنطق المعوج، وكأنما ينبغى إذا لم يدرك كل الشىء أن يترك جله، أو حتى ما تبقى له، وقد سيطرت عليهم قاعدة إما الكمال وإلا فلا.. يتعاملون بهذا المنطق على مختلف الأصعدة، فإذا عصوا الله معصية تمادوا فى عصيانه ولسان حالهم «ما هىّ بايظة بايظة»، وإذا قصروا فى طاعة تركوها وباقى الطاعات، وكأنما قد سد باب الإصلاح أصلها «كده كده.. بايظة»، وإذا فشلوا فى تحقيق هدف قعدوا وأحبطوا وكأن الحياة قد انتهت، ولم يعد لوجودهم معنى أو غاية لأنها «بايظة بايظة خلاص»، وهكذا دواليك.
إنه نموذج واقعى لذلك المثال القرآنى البديع عن تلك المرأة التى كلما غزلت ثوبًا نقضته كأن لم يكن «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ». إنه نموذج صارخ لحماقة مدهشة لا تختلف كثيرًا عن حماقة أولئك الذين اختاروا التمرغ فى الوحل، بدلاً من أن ينظفوا ما اتسخ، ويرتقوا ما تمزق من ثيابهم، أو قرروا أن يتلفوا ما تبقى من رصيدهم، بدلًا من أن ينمّوا ويستثمروا ما بقى لهم، أولئك الذين تناسوا ما علمهم ربهم من أنه «لَا يَيْأَس مِنْ رَوْح اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُون»، وأن فرصة الإصلاح والتصحيح قائمة ما لم يغرغر المرء وتأتيه سكرات الموت، فما أشد حماقتهم، وما أقل حيلتهم، وما أهونهم على أنفسهم وهم يقبلون التمرغ فى تلك المخاضة القذرة التى تكاد ترسم بوحلها شعارهم فى الحياة..
شعار: ما هىّ كده كده بايظة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة