حين كنت صغيرة كنت أرتدى الشورت، وأركب عجلتى لأذهب بها للنادى، وكانت شوارع مصر الجديدة تحتضننى أنا وأخريات، ونحن نرتدى ما نريد ونلعب حتى الاستغماية، حين كنت صغيرة فى الجامعة كنت أركب الأوتوبيس العام وأنا أرتدى ما يحلو لى، حين كنت صغيرة كانت النساء على البلاج ترتدى المايوه وتجرى هنا وهناك، وتلاطم الأمواج، ولا أحد يستطيع الاقتراب أو اللمس، حين كنت صغيرة لو تجرأ شاب ما أو رجل أن يقول لى كلمة كده ولا كده من نوعية يا جميل يا أسمر، كنت أزغر له بعينى فيختفى سريعاً فى الزحام قبل أن تناله يد أى عابر سبيل، لتعطى له علقة على الأكثر، أو كلمتين سم كأضعف الإيمان.
مر الزمن وصرت كبيرة ولدى ابنة لم تعرف مثلى لعب العجل فى شوارع منطقتنا، صرت كبيرة وشوارع مصر لا تستطيع أن تحتضن ابنتى فى أمان ولو أمان شكلى، صرت كبيرة وابنتى لا يمكن أن أسمح لها بركوب المواصلات العامة وهى كذلك لا تستطيع، صرت كبيرة وابنتى ترتدى ملابس أقرب لملابس الرجال، وتسير منحنية لا تريد أن ترفع رأسها وكتفيها خوفاً من أن تبدو لها ملامح الأنثى.
التحرش جريمة فاضحة مفضوحة، وللأسف مازلنا نطلق عليها حتى المتخصصين ظاهرة، والتحرش ليس ظاهرة، ولكنه جريمة مكتملة الأركان، وأزعم أنه من العبث أن البعض يُرجعها للفقر فقط، لأن مصر على مدى تاريخها القريب والبعيد بلد الفقراء، أو أن يُرجعها للجهل فقط لأن مصر أيضاً معدلات الجهل فيها منذ زمن كانت دائماً مرتفعة، بل إنها انخفضت عما كانت عليه، أو يُرجعها للتمييز وفوارق الطبقات فقط لأن مصر على مدى تاريخها يعيش فيها الأمير والغفير، أو يُرجعها لتأخر سن الزواج، أو ألف سبب وسبب يخرج به علينا المتحذلقون.
كما أننى أجد من العبث رأى واحد من شباب الفنانين المجتهدين فى مصر عمرو سلامة الذى يخرج علينا باقتراح يرى أنه من شأنه أن يعالج جريمة التحرش، فيطالب بتقنين الدعارة وإباحة الحرية الجنسية، وكأن المتحرشين سيستعيضوا بالدعارة عن التحرش! لست أهاجم مقترح عمرو سلامة من منطلق العيب والحرام فذلك النوع من الهجوم هو الأسهل والأكثر سطحية أيضاً، ولكنى أهاجمه وأختلف معه لأنه قصر معنى الجريمة فى الكبت الجنسى وحسب، ومثله مثل أحد يطالب من أجل الحد من جرائم القتل إباحة السرقة، ولكن دعنى أعيدها ثانية التحرش جريمة، وليس ظاهرة، قد تكون جريمة تستشرى فى المجتمع، ومن هنا علينا أولاً أن نُفَعل القانون وبقوة، وإن لم يكن ذلك هو السبيل الوحيد ولكنه البداية الصحيحة.
ودعنى أورد لك أيها القارىء العزيز مثالاً ربما أنت عشته مرات، سواء كنت إمرأة أو رجلا، فصديق لى كان يجلس على المقهى وتقابل مع صديق آخر يصطحب ابنه ذى التسع سنوات، فدعاه الصديق للجلوس معه، وداعب الابن الصغير، وبعد لحظات مرت امرأة أمام المقهى، فالتفت الطفل وقال لوالده اللى عدت دى ماكينة جامدة، فراح الأب يضحك ويقول لصديقه شوفت الواد مبتدى بدرى....! ودلالة تلك الرواية أن الأب لم ير فى تعليق طفله كارثة ومعنى لجريمة، بل شجعه، ويعنى أيضاً أن هذا الرجل إن لم يكن متحرشاً مجرماً فهو يربى متحرشاً مجرما.
السينما وبعض أفلامها مسؤولة عن ترسيخ نظرتنا كمجتمع للتحرش على أنه ليس جريمة، بل إنه تصرف خفيف الظل، ويبعث على الضحك، فكم خرج علينا أبطال فى مشاهد يتحرشون فيها بالنساء، وتضج صالة العرض بالضحكات رجالاً ونساء وحتى أطفال، لأن صُناع الفيلم قرروا أن يكون مشهد التحرش كوميديا، فكان أولى بفنان مثل عمرو سلامة أن يدرك بعضاً مما ذكرت قبل أن يطالب بالحل الأسهل.
عود على بدء التحرش جريمة مشينة لصاحبها، ويوم أن نتفق كمجتمع وكسلطة على تعريفها بهذا المعنى، وبوسائل علاجها من هذا المنطلق، ربما ستكون تلك هى البداية، أما لو بقينا على حالنا نبحث فى كل الاتجاهات وندور فى دوائر مفرغة، فأعتقد ولا أتمنى، أن يأتى يوم على ابنتى بعد أن تكبر وتصير أماً وتُرزَق بابنة أن تترحم على زمانها الذى ما هو بزمان.
“ التحرش جريمة مشينة لصاحبها ويوم أن نتفق كمجتمع وكسلطة على تعريفها بهذا المعنى وبوسائل علاجها من هذا المنطلق ربما ستكون تلك هى البداية ”