نتمنى أن تبدأ قريبا قوافل أو معسكرات أو أفواج شباب من الجنسين للعمل فى مختلف أنحاء الوطن
مازال السؤال قائما: لماذا حدث التناسب الطردى بين ارتفاع المد الدينى وبين تصاعد التحرش الجنسى وهتك الأعراض والاغتصاب وزنا المحارم، مضافا إليه اتساع دوائر الإلحاد بمضامينه المختلفة «العلمية والفلسفية، والعدمية»؟ أى لماذا تصاعد كل ذلك، رغم عشرات الفضائيات التى ركزت عملها وخطابها على الدين، سواء كان إسلاميا أم مسيحيا، ورغم انتشار عشرات الجماعات والأحزاب والتنظيمات والجمعيات، التى اعتمدت الخطاب الدينى وربطت نشاطها بالدعوة الدينية؟! وذيوع صيت عشرات الدعاة الذين يطلعون على الناس بالثياب الفاخرة واللحى المرسلة الكثيفة؟
صحيح أن كثيرا من تلك القنوات التليفزيونية اهتمت بالترويج لأعشاب وتركيبات قالت: إنها تقوى الهمة الجنسية، وتعالج أى قصور عضوى أو وظيفى، وبدت السطور التى تحتل أسفل أو أعلى الشاشة مثيرة للغريزة، أكثر منها موقظة للعقل، وصحيح أيضا أن تلك القنوات عمدت إلى أن يكون الجزء الأوسع والأهم من خطابها متصلا بالجانب الجنسى فى حياة الناس، سواء كانوا متزوجين أم غير متزوجين، فتعمدت أن تأتى أسئلة من الواضح أنها مرتبة ومصنوعة، تسأل فى مسائل مثيرة للغريزة، لتأتى الإجابات من الشخص «الداعية»، الجالس على الشاشة أكثر إثارة.. فتخوض فى تفاصيل التفاصيل بمبرر وحيد هو أنه لا حياء فى الدين، ولا حياء فى العلم، إلا أن ذلك الصحيح لا يقدم ولا يصلح وحده تفسيرا للموجات الشهوانية، التى تصاعدت بدرجة بشعة وتحولت فى كثير من الأحوال إلى جرائم خطيرة، هُتكت فيها أعراض واغتُصبت سيدات وبنات، ووصل الأمر إلى التنكيل بالضحية لدرجة إسالة دمائها وتمزيق جلدها وتقطيع لحمها، وتدمير أعصابها وعقلها واغتيال إنسانيتها؟!
ثم كيف وصل الأمر فى بلادنا لدرجة أن تتم الجريمة فى مكان عام مفتوح ومكشوف كالميادين العامة والشوارع، وأن تنفذ بشكل جماعى يشارك فيه عشرات من الذكور البالغين، يتنافسون على من تكون يده أكثر طولا وأظافره أشد حدة وسخونته الجسدية أقوى اندفاعا للفتك بأنثى علنا جهارا نهارا على رؤوس الأشهاد، وبالقرب أو وسط عشرات المئات من المشاهدين؟! وهل هو أمر طبيعى فى عالم الإنسان أن يتم التنفيس الجنسى على هذا النحو، أم أنه أمر شاذ وغريب لابد أن يخضع للفحص والدراسة من أهل الاختصاص؟!
ثم كيف يحدث هذا كله ومنذ فترة طويلة، ولا يندفع التكوين الاجتماعى كله لمواجهة الظاهرة بكل أنواع المواجهة، ابتداء من تشكيل جماعات مدربة على العنف المضاد، لتنتشر فى أماكن وفى توقيتات بعينها تكون الأكثر احتمالا لوجود حالات التحرش والهتك والاغتصاب، وتشتبك مع تلك الوحوش وتردعها بقسوة، وليس انتهاء بأشكال العلاج المتعارف عليها فى مختلف التخصصات المتصلة بالظاهرة؟!
ولقد قرأت وسمعت بعد حادثة التحرير الأخيرة أن لجنة ستضم ممثلين عن الأزهر والكنيسة وبعض الجهات ستتكون وتعمل لمواجهة الظاهرة، وعجبت من الأمر لسبب أساسى هو المقولة القديمة التى لم تبل: «إذا أردت أن تُهمل شيئا ولا تنجزه فشكل له لجنة»! ولسبب جوهرى آخر هو غياب الأطراف الأكثر مسؤولية عن مثل هذه الظاهرة، أى علماء وخبراء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والجريمة ومنظمات حقوق الإنسان وجمعيات مقاومة الإدمان والانحراف!
وتعالوا نتساءل ليس بهدف تكرار تجارب بعينها كانت عندنا أو بهدف تقليد مجتمعات أخرى تندر فيها مثل هذه الظواهر، ولكن لنساعد أنفسنا على إيجاد حلول.
و«بادئ ذى بدء»، كما يقولون عندما يريدون التأسيس لشىء يظنونه مهما، فإن التفكير فى العقوبة البدنية أمر قد يراه البعض مستبعدا تماما، وأنه شىء غير إنسانى، ولكن واقع الحال يؤكد أن مجتمعات تأخذ بشىء من تلك العقوبة استطاعت أن تتخلص من جرائم بعينها مثل سنغافورة، وعقوبة الضرب لمن يلقى بفضلات فى الشارع، ومازالت قصة الولد البريطانى الذى ألقى «لبانة» علكة وعوقب بالضرب ماثلة فى الأذهان.. وهنا وفى نطاق التساؤل الاستفسارى أتساءل: لماذا لا نناقش مسألة العقوبة البدنية فى بعض الجرائم؟!
وعلى الجانب الآخر لنا أن نتأمل، وأن ندرس لماذا لا تنتشر الظاهرة وبهذه الضراوة فى مجتمعات أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق آسيا، وكلها مجتمعات غير إسلامية، ولا وجود فيها للفضائيات إياها ولا للدعاة، الذين أصبحوا أكثر من الهم على القلب؟ هل لأن الثقافة الجنسية تدرّس هناك فى مرحلة التعليم العام؟ وهل لأن الأسرة لا تنفر من المسألة الجنسية عند أولادها وبناتها وتقر بأنه تطور طبيعى غريزى يلزمه ضوابط أكثر من ربطه بالحرام والعيب والعورة وخلافه؟
وهل لأن كثيرا من المجتمعات لديها عادات وتقاليد لا تربط بين الذكورة والفحولة والتباهى الجنسى وبين الأهمية الاجتماعية أو التفوق المجتمعى؟ وبالاستطراد يمكن أن نجد أكثر من «هل» حول تلك المجتمعات، التى هى بالجملة حلت مشكلة الجنس وتغلبت عليها بما يكفل انصراف الناس إلى أعمالهم وإنتاجهم وممارسة الحياة الطبيعية بما لا يضر الآخرين.
بعد ذلك تعالوا نتساءل أيضا استفساريا وليس تقريريا لماذا كانت تلك الجريمة ضامرة فى مرحلة كان متاحا فيها ووفق ضوابط قانونية وصحية دقيقة بيوت البغاء، التى كانت تخضع لإشراف قانونى وشرطى وصحى من الدولة، وكانت شبه ضامرة فى مرحلة ما بعد إلغاء البغاء، ولكن كان فى المجتمع الخمسينيات والستينيات متنفسات كالساحات الشعبية ومراكز الشباب والاحتفالات الجماهيرية الواسعة، ودور السينما المشبعة بإنتاج سينمائى ضخم، والمسارح العامة وفرق الفنون والرقص الشعبى ومعسكرات العمل للشباب، ومنظمات الطلائع والشباب، وأيضا وجود قضايا وطنية وقومية عامة تتسع من أجلها دوائر النقاش، وكذلك وجود مشاريع عمل قومى كالسد العالى وحركة التصنيع الواسعة! فهل نفتح حوارا مجتمعيا حول إعادة صناديق المتعة الجسدية المحكومة قانونيا وصحيا، وهل تؤدى المشاريع المزمع إقامتها فى المرحلة المقبلة إلى ما أدت إليه مشاريع الخمسينيات والستينيات؟!
ومن التساؤلات قد نتطرق إلى التمنيات فنتمنى أن تبدأ قريبا قوافل أو معسكرات أو أفواج سمها كما شئت الشباب من الجنسين للعمل فى مختلف أنحاء الوطن لوقف هجوم البحر من الشمال ولصد زحف الصحراء من الشرق، ومن الغرب، ولاستصلاح الأراضى وزراعتها وللتصنيع الزراعى ولمحو الأمية ولتنظيف وإنارة القرى والنجوع والكفور والحوارى والأزقة، وهلم جرا من المشاريع التى تمتص الطاقة الفائضة، والتى أثناء العمل فيها يتم إعادة التأهيل الذهنى والنفسى والاجتماعى بمختلف الوسائل، وفى مقدمتها الأعمال الإبداعية المشتركة من الشبان والشابات كرسم الجداريات وفرق الاستعراضات الشعبية والتمثيل والموسيقى والغناء وغيرها.
إنها مهمة وطنية أظنها شديدة الأهمية، تحقق مجموعة أهداف فى وقت واحد، وأهمها هدفان: الإنتاج والخدمات، ثم صياغة وعى جديد لدى أولادنا من المراهقين والشباب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة