البعض يأتى فى «الهايفة ويتصدر» كما جاء فى المثل الشعبى الدارج، فبعض الفتوجية على مواقع التواصل الاجتماعى أو فى بعض الفضائيات لم ير فى زيارة كيرى لمصر سوى جلسة وزير الخارجية الأمريكى واضعا ساقا على ساق أمام الرئيس السيسى، مثلما لم يروا فى زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمصر سوى قبلة الرئيس على جبين العاهل السعودى.
ثم يتبع ذلك الدخول فى مقارنات أكثر هيافة وتفاهة بعيدا عن مضمون الزيارة فى محاولة لخلق ما يسمى بالوعى الكاذب والمضلل لدى شريحة من الرأى العام فى مصر. وراء هذا الوعى جماعات مغرضة و«كتائب إلكترونية» مازالت تمارس الدجل والتضليل والتشويه لإعادة دوران عجلة الزمن إلى الوراء، والاستمرار فى حالة إنكار الواقع والعيش فى الأوهام.
هذه الجماعات ومن يتبعها من الجهلاء والسفهاء لم تستوعب الصدمات السياسية الأخيرة بعد قرار عودة مصر إلى الاتحاد الأفريقى واعتراف الدول الأفريقية بثورة الشعب فى 30 يونيو، ثم زيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لمصر وهى الزيارة الأولى لوزير خارجية غربى للقاهرة وأول زيارة لمسئول أمريكى رفيع المستوى للقاهرة بعد انتخاب الرئيس السيسى فى اعتراف واضح وصريح بإرادة الشعب المصرى فى يونيو وبالرئيس المنتخب وبخارطة المستقبل السياسى فى مصر، وطى صفحة جماعة الإخوان الإرهابية، وبدء مرحلة جديدة فى العلاقات المصرية ــ الأمريكية على أرضية المصالح المشتركة والأمر الواقع.
كيرى جاء إلى القاهرة مدفوعا بالبراجماتية الأمريكية التى لا تعمل سوى لمصالحها الاستراتيجية فى المنطقة وتحت ضغط الإرادة الشعبية المصرية التى أثبتت تصميمها على رفض النهج الأمريكى بعد 30 يونيو وانحياز واشنطن لجماعة الإخوان الإرهابية وممارسة الضغوط على مصر بوقف المعونات وعرقلة تسليم طائرات الأباتشى، وأمام التصميم ومقاومة الضغوط والسير نحو التغيير والإصلاح الديمقراطى وإزالة آثار العدوان الإخوانى، تبدلت المواقف الأمريكية أو على الأقل وزارتى الخارجية والدفاع تجاه مصر فى ظل تطورات الأوضاع السياسية المعقدة فى المنطقة وخاصة فى سوريا والعراق وليبيا وحاجة واشنطن إلى مصر والسعودية فى هذه الأزمات لأنهما أكبر دولتين فى المنطقة.
ولست مع من يقول إن كيرى استخدم السياسة الأمريكية التقليدية بالتلويح «بالعصا والجزرة» لمصر، فهذه سياسة أثبتت عدم جدواها وفشلها، فكيرى لم يقصد من عودة الأباتشى فى القريب العاجل أو استئناف المساعدات أن يحدث فجوة فى العلاقات المصرية السعودية والإماراتية، بإظهار التواجد الأمريكى فى لعبة المساعدات والدعم.
مجمل الزيارة أنها اعتراف أكيد بالرئيس المنتخب وبالحكومة المصرية رغم تصريحات إدارة أوباما بأنها - أى الزيارة - تحمل رسالة أمريكية بصعوبة التحول الديمقراطى فى مصر والدعوة للمصالحة مع الإخوان، ولكن ذلك يأتى فى إطار الصراع السياسى والرؤى المتناقضة بين إدارة أوباما والكونجرس ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع وتحديدا حول الموقف من مصر.
كيرى جاء فى زيارته الرسمية إلى مصر لأن واشنطن تدرك جيدا أن أوراقها السياسية فى الضغط على القاهرة قد استنفدت أغراضها ولم تأت بالنتائج التى كانت تتمناها، وأن مصر لديها الكثير من الأوراق السياسية أيضا.