يقول مصطفى صادق الرافعى (إن شرّ النفاق ما داخَلَته أسباب الفضيلة، وشرّ المنافقين قومٌ لم يستطيعوا أن يكونوا فُضلاء بالحق، فصاروا فُضَلاء بشئٍ جعلوه يشبه الحق).
والنفاق مكوّنٌ أساسىٌ من مكونات الحياة الدنيا، فما دُمنا فيها على الأرض سيظل هناك نفاقٌ ومنافقون.. فقط فى السماء لا نفاق.. فالمُلك يومئذٍ لله الذى لا ينفع معه (ولا يجوز) نفاقٌ ولا كذب.
علينا طبعاً أن نُحارب النفاق ما استطعنا ونحاصر المنافقين ونفضحهم ونحث فى وجوههم التراب (إذا عرفناهم).. ورغم احتقارنا للمنافقين، إلا أن علينا أن نُسلّم بوجودهم كأحد عناصر التوازن البيئى مثل صراصير البالوعات، رغم اشمئزازنا منها. تخيلوا الحال لو كنا كلنا صرحاء مثلما حدث فى قصة فيلم (أرض النفاق)؟.. إذن فالمشكلة ليست فى أن النفاق موجودٌ.. إذ سيظل موجوداً.. المشكلة فى مصر أنه موجودٌ بكثرة.. وعلينا أن نجتهد فى كيف تستفيد مصر من فائض هذا النفاق.. وهو فائضٌ لا يمكن تصديره لسببين: أولهما أن سلعة النفاق من السلع الضارة المُحرّم تصديرها (كالمخدرات والأسلحة الكيماوية).. وثانيهما أن دول المنطقة لديها ما يكفيها من هذه السلعة، فلا سوق خارجية لها.
إذن ما العمل؟ لا بد فى البداية أن نُفرّق بين أنواع النفاق، لاستبعاد النوع الذى لا أمل فى أى استفادةٍ منه.. فالنفاق نوعان من حيث الوسيلة: نفاقٌ بالقول ونفاقٌ بالفعل.. فأما نفاق القول فلا فائدة منه ألبتة.. فهو كذبٌ فى كذبٍ.. يُفسد الحاكم لا سيما إذا كان قابلاً له، ويُفسد الأمة.. وأبشعه قول ابن هانئ الأندلسى للمعز لدين الله الفاطمى (ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ.. احكُم فأنت الواحدُ القهّارُ.. فكأنما أنت النبىُ محمدٌ.. وكأنما أصحابك الأنصارُ) فإذا بالحاكم يُنعمُ عليه بمكافأةٍ بدلاً من أن يأمر بإعدامه أو استتابته.. فباء كلاهما بسوء العاقبة بهذا النفاق. (للأسف فإن أحد الكتاب استخدم هذين البيتين وهو يطلب من السيسى أن يحزم أمره ويترشح للرئاسة فى أكتوبر الماضى.. وإن كنتُ أعتقدُ أنه فعل ذلك جهلاً لا نفاقاً).
لم يتبقَ إلا نفاق الفعل.. وشرط استفادة الأمة به أن يكون الحاكم صالحاً يفعلُ أشياءً صالحاتٍ.. يقتدى به مواطنوه حُبّاً واقتناعاً.. فإذا قلّد البعض أفعاله الطيبة نفاقاً فلا بأس، إذ إن فائض نفاقهم سيصب فى صالح الوطن.. وهنا بيت القصيد.. لدينا الآن رئيسٌ يمتدحه ويُقلده كثيرون، معظمهم بالتأكيد ليسوا منافقين، والدليل أن الأغلبية الكاسحة من المواطنين منحته تأييدها خلف سواتر اللجان الانتخابية لا يشهد عليهم إلا الله.. ولكن هل معنى ذلك أنه لا ينافقه أحد؟ الإجابة طبعاً لا.. فالنفاق من طبيعة الأشياء وإلا لما كُنّا فى مصر.. فكيف تُحقق مصر أقصى استفادة ممكنةٍ من فائض نفاق هؤلاء؟ أعتقد أن ذلك يتحقق باقتراح مبادراتٍ طيبةٍ يبادر بها السيسى فيقلده محبوه ومنافقوه فى فعل الخير.. فتستفيد مصر.
كان الزعيم الأسطورى جمال عبدالناصر محبوباً ومُهاباً.. إذا فعل شيئاً قلّده مرؤوسوه حُباً أو اقتداءً أو اقتناعاً أو نفاقاً.. ولأنه كان حاكماً سوياً صالحاً فإن تقليده (ولو نفاقاً) كان يعود بالنفع على مصر.. كان جمال عبدالناصر مثلاً حريصاً على التفاخر بأنه يلبس من إنتاج مصانع المحلة، فكان مرؤوسوه حريصين (ولو نفاقاً) على أن تكون ملابسهم من إنتاج هذا الصرح المصرى العظيم.. وعُرِف عن عبدالناصر انحيازه للفقراء فكان المسؤولون يتسابقون فى اتخاذ إجراءاتٍ لصالح الفقراء.. من المؤكد أن بعضهم كان يفعل ذلك نفاقاً وتقرُباً للزعيم.. لا بأس، فقد استفادت مصر واستفاد فقراؤها من هذا النفاق.. وكان عبدالناصر يتباهى بأن أباه كان موظفاً بسيطاً فى مصلحة البريد.. فتسابق المسؤولون فى البحث عن فقراء عائلاتهم والتمسح والتفاخر بهم، اقتداءً أو نفاقاً، فاصطبغت سنواته بعدم التمايز بعد عقودٍ طويلةٍ من التمايز بالأنساب والأحساب.. كل ذلك كان تفريغاً لفائض النفاق عند البعض لصالح الوطن.
فإذا قفزنا نصف قرنٍ لنصل إلى زمننا الحالى سنجد أن المعنى متقاربٌ.. عُرف عن الرئيس عبدالفتاح السيسى أنه يبدأ عمله فى السابعة صباحاً (والبَرَكَة فى البكور) فتسابق المسؤولون لابتكار فعالياتٍ ومؤتمراتٍ صحفية مبكّرة، يلهث وراءها الصحفيون متثائبين.. من الطبيعى أن يكون بين هؤلاء المسؤولين منافقون، فما الضرر؟ لا بأس.
وركب السيسى الدراجة.. وهو فعلٌ محمودٌ بلا شك.. فإذا بالمسؤولين يتسابقون فى شراء الدراجات حتى ولو كانوا لا يعرفون ركوبها.. أما مدير أمن دمياط فقد جمع بين الحسنيين، أى ركوب الدراجة والسابعة صباحاً.. إذ قام سيادته بجولةٍ مفاجئةٍ بالدراجة فى السابعة صباحاً ومعه حرسه الخاص على دراجاتهم أيضاً بلا أى أسلحةٍ (!) وأعلنت صفحة مديرية أمن دمياط أن (مدير الأمن يسير على خطى الرئيس السيسى ويقوم بجولة تفقديةٍ لأحوال الأمن راكباً دراجته وسط مشاعر الفرح التى كانت واضحةً فى عيون أهالى دمياط) هكذا جاء فى الخبر.. أعتقد أن معظم هؤلاء لم يكونوا ينافقون الرئيس وإنما يُعبّرون عن حبٍ جارفٍ لهذه الرياضة التى كانوا يتحرجون من ممارستها، وأزال الرئيس عنهم الحرج بمبادرته.. ولنفترض أن بعضهم فعل ذلك نفاقاً فما الضرر؟ لا بأس أيضاً.
زار الرئيس السيدة المتحرّش بها واعتذر لها فصدرت التشريعات وتحرك الأمن وأسرعت النيابة فتراجع التحرش.. نتيجةٌ ممتازةٌ حتى ولو خالَط الصواب َفى الأفعال بعضُ النفاق.
وكانت آخر تلك المبادرات الطيبة هى إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى عن تبرعه بنصف راتبه ونصف ثروته لصالح مصر، فتسابق المسؤولون ورجال الأعمال والإعلاميون والشخصيات العامة والوزراء والمحافظون ورؤساء الجامعات فى السيْر على خُطاه.. من المؤكد أن معظم هؤلاء فعلوا ما فعلوه حُبّاً لمصر وللسيسى أو اقتداءً به أو تقليداً له، وليس من حق أحدٍ أن يشقّ عن قلوبهم ويفترض غير ذلك.. وحتى لو كان بعضهم قد فعل ذلك نفاقاً، فما الضرر؟.. الضرر الوحيد هو أن يحصل المنافقون على جائزة نفاقهم.. وتلك بلا شك هى مسؤولية الرئيس.. وهى مسؤوليةٌ بالغة الصعوبة، تكمن صعوبتها فى القدرة على فرز المنافق عن غير المنافق.. إذ إن من المنافقين من لا يُدرَكُ خداعُهم بسهولةٍ لأنهم يكذبون بصدقٍ، كما قال أندريه جيد.
مثلاً ماذا لو فعلها السيسى ونشر إقرار ذمته المالية على مواقع التواصل الاجتماعى؟ وبالمناسبة فإن ذلك إلزامٌ دستورى وفقاً للمادة 145 التى تنص على أنه (يتعيّن على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمةٍ ماليةٍ عند توليه المنصب، وعند تركه، وفى نهاية كل عامٍ، ويُنشر الإقرار فى الجريدة الرسمية).. النتيجة المتوقعةُ أن المسئولين كافة بالدولة سيقلدونه حباً أو حياءً أو اقتناعاً أو التزاماً أو حتى نفاقاً.
وماذا لو فعلها السيسى وأعلن عن الإجراءات التقشفية التى اتخذها بالفعل بشأن مخصصات الرئاسة وسياراتها وطعامها حتى يقتدى به الوزراء والمسؤولون أو ينافقونه؟..وماذا لو.. ولو.. ولو؟.
أليس ذلك أفضل لمصر من أن يوجّه المنافقون فائض نفاقهم إلى اتجاهاتٍ ضارةٍ بالوطن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة