ذكرنا أن جوهر فريضة تجديد الخطاب الدينى هو تجديد فهم الوحى، وهذه العملية عقلية يقوم بها المجتهد المتخصص الذى يملك أدوات ومهارات النظر فى الوحى- سوف نذكر هذه الأدوات فيما بعد- وبالتالى فإن ما أصاب الخطاب الدينى من جمود وعدم صلاحية لمتغيرات العصر له علاقة وثيقة بنظرة المسلمين للعقل البشرى ودوره، فمع الأسف افتعل بعض رجال الدين قديما معركة وهمية بين العقل والوحى- القرآن وصحيح السنة- وانتقلت هذه المعركة الوهمية من عصر إلى عصر، حيث اعتبروا أن الكلام عن إعمال العقل مع النصوص الشرعية ومحاولة الفهم العقلى لأى شىء فى الدين هو دليل على نقص أو عدم الإيمان بل وحرم بعضهم علوم تنمية وتدريب العقل مثل المنطق والفلسفة واعتبروها علومًا كفرية وقاموا بمصادرة ومنع طباعة الكتب التى تعلم هذه العلوم واستدلوا على ذلك بآية (101 و102) من سورة المائدة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قد سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بهَا كَافِرِينَ» وقد استخدموها فى غير موضعها فقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما فى البخارى أن الآية نزلت فى أناس كانوا يسألون النبى استهزاء وسخرية فغضب النبى لاستهزائهم بالقرآن ونزلت الآية، وبالتالى لم ترد لمنع السؤال والفهم وإنما تمنع السخرية من الدين.
ومع الأسف تداول بعض رجال الدين فى هذا الإطار عبارة من أخطر العبارات التى كان لها تأثير جوهرى على الثقافة الإسلامية بل أقول إنها من الأسباب الرئيسية التى أدت إلى ما أصاب الخطاب والفكر الدينى من جمود وتراجع وعدم صلاحية هى «من تمنطق تزندق» وهذه العبارة يستخدمها بعض دعاة السلفية المعاصريين ليثبت أن هناك علاقة عضوية بين استخدام العقل والكفر وأول من قال: «من تمنطق تزندق» إمام الحديث ابن الصلاح الشهرزورى المتوفى سنة 643هـ ثم تكرر استخدامها على يد شيخ الإسلام ابن تيمية - وإن موقفه من المنطق والفلسفة فيه خلاف - المتوفى سنة 729هـ وقيل استخدمها أيضا ابن رجب الحنبلى ثم استخدمها العثمانيون الأتراك وقد تحولت هذه العبارة إلى حجة يستخدمها عدد كبير من الشيوخ والدعاة ليبرر عدم قدرته على المناظرة العقلية لشرح ما يؤمن به ويدعو إليه ونسى هؤلاء موقف سيدنا إبراهيم وسعيه إلى زيادة إيمانه بكل وسيلة متاحة له قال تعالى فى سورة البقرة آية 260: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، فكل واحد منا من حقه أن يسأل ويستفسر عن كل شىء يريد أن يفهمه وهذا لا يطعن فى إيمانه أو تدينه.
وفى الحقيقة هذه النظرة العدائية للعقل ودوره والتى يروجها بعض الدعاة ورجال الدين تخالف صريح الإسلام، فالقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا فى مقام التعظيم والتنيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتى الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة فى سياق الآية، بل هى تأتى فى كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر مرة بالأمر الذى يدفع المؤمن إلى تحكيم عقله ومرة بالنهى عن إهمال العقل أو قبول الحجر عليه أو أى شىء يعطله، بل وذكر القرآن جميع وظائف الإنسان العقلية مثل الإدراك والتأمل والتفكر والحكم والوازع الأخلاقى ومن هذه الآيات قول الله تعالى من سورة البقرة آية (164): «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَاب الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، وقول الله من سورة ص آية (29): «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب»، وقول الله تعالى من سورة الأنعام آية (151): «قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بهِ شَيئًا وَبالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتى حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ»، وقول الله من سورة الملك آية 10: «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَاب السَّعِير»، وقول الله من سورة آل عمران (آية 7): «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَاب»، وقد ذكر القرآن الكريم العقل ومشتقاته نحو 49 مرة؛ ثم ذكر الألباب أى العقول 16 مرة، وذكر ألفاظا أخرى تحث على إعمال العقل مثل أفلا ينظرون ويتفكرون وغيرها فى أكثر من آية، فالقرآن جعل التفكير وإعمال العقل هو فريضة إسلامية.
وفى الحديث القدسى الذى رواه الطبرانى فى معجمه عَنْ أَبى أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: «أَقْبلْ»، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: « أَدْبرْ». فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: «وَعِزَّتِى مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْكَ، بكَ آخُذُ وَبكَ أُعْطِى، لَكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ».
وقال الإمام محمد الغزالى: «هناك إيمان ضرير لا يبصر الحياة، ولا تسحره عجائبها، ولا تستهويه أسرارها. هذا الإيمان يمكن أن تنسبه إلى أى مصدر غير القرآن الذى يخلق الإيمان البصير، لا الضرير.. الإيمان الذى ينمو، ويقوى بالتأمل فى الكون، ومطالعة آياته، والتعرف على خفاياه».
ولأن إعمال العقل هو أمر من أوامر الخالق وضرورة حتمية من ضرورات الحياة فإن القرآن لم يكتف بالدعوة إلى التفكر والتدبر والنظر، وإنما جعل الحفاظ على العقل من مقاصد الدين الكبرى وحرم كل ما يذهب العقل أو يؤثر عليه بل وجعله من الكبائر مثل شرب الخمر والمخدرات وسعى إلى إزالة جميع الموانع والأعذار التى تعطل عمل العقل أو تؤثر عليه ومنها تحرير العقل من التقليد الأعمى للآباء والأجداد، كما فى قوله تعالى من سورة من سورة البقرة (آية 170): «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ»، وكذلك تحرير العقل من تقليد السادة والكبراء وأصحاب الجاه والسلطة كما فى قوله تعالى من سورة الأحزاب آية 67 و68: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَاب وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبيرًا»، وكذلك تحرير العقل من التأثر بالتفكير الجماعى كما فى قوله تعالى من سورة سبأ (آية 46): «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا».
وبالتالى فإن إعمال العقل لفهم نصوص الوحى من القرآن وصحيح السنة هو أمر حتمى لاستخراج المعانى العملية منها والتى تؤثر فى حياة الناس فالعقل يقع بين الوحى والفهم وبدونه لا يفهم الوحى ولا يتجدد الفهم حتى فى أمور العقيدة والغيب هناك ما يسمى بالدليل العقلى الذى يعتمد عليه المرء فى ترسيخ إيمانه بعقيدته وتبرير اختياره الدينى لغير المؤمنين بدينه، ولقد تابعت فى إحدى القنوات الفضائية مناقشة بين شاب ملحد وأحد الشيوخ وذكر الشاب أنه كان متدينا على المنهج السلفى المعاصر بل وكان يعلمه ثم بدأ فى سرد الموضوعات والشبهات التى جعلته يشك ويصل إلى الإلحاد وكلما وجه الشاب سؤالا أجابه الشيخ بآية أو حديث وفى كل مرة يسخر الشاب من الإجابة ويقول له أنا لا أؤمن بالله أصلا وبالتالى لا أؤمن بالقرآن ولا بالأحاديث، وكلما قال ذلك يسبه الشيخ ويرتفع صوته ويكرر ذكر الآيات والأحاديث وانتهت الحلقة بعد مشادة كلامية بينهما وتمسك الشاب بموقفه، وفى الحقيقة هذا الشيخ نسى قاعدة أصولية مهمة وهى: «أن نصوص الوحى والمسمى بالدليل - الآية أو الحديث لا تعطى المعنى المراد والمسمى بالدلالة بنفسها بل لابد من عقل المتخصص الذى يستخرج الفهم من النص» فمجرد ذكر الآية والحديث أمام الناس لا يفيد شيئا إلا إذا شرح بالعقل ما نفهمه منها وكذلك عند إثبات وجود الله لشخص ينكر وجوده لا أستطيع استخدام نصوص القرآن والأحاديث لأنه بالتبعية لا يؤمن بها، وإنما لابد من استخدام الأدلة العقلية والعلمية التى تثبت وجود الله أولا حتى يؤمن بالله وعندها من الممكن الكلام عن الآيات والآحاديث. فإذا كان استخدام العقل هو أمر حتمى لفهم وتجديد الخطاب الدينى فإن موجة الشك والإلحاد التى ظهرت فى بلدنا وفى معظم الدول العربية تحتم التوسع فى استخراج الأدلة العقلية التى تؤيد الإيمان وكذلك توجب على المتصدرين لشرح الأديان والدعوة لها التدريب على المناظرات العقلية وتنمية القدرات العقلية بشكل عام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة