كان من الأفضل مواجهة الحقيقة واحترام عقول الناس، ونقول لهم إن اقتصاد مصر مثل السفينة التى تغرق، وليس هناك وقت نضيعه لإنقاذها، بدلاً من موشحات "تجميل" قرارات رفع الدعم عن الوقود وكأنها مكافأة ومنحة وهبة، وأشعر بالأسف على الوزير الذى هلل وكبر وصرح بأنها "أهم قرارات فى تاريخ مصر"، وأنه "لا مساس ولا مسوس" بالفقراء ومحدودى الدخل، وأنها تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية وتأخذ من الأغنياء لصالح الفقراء فمثل هذا الكلام لا يصدقه أحد لأن المواطن الذى يواجه الغلاء على أرض الواقع لن يحترم مثل هذه التصريحات، والمصارحة بالحقائق هى التى تضمن تأييدهم وتحملهم الدواء المر، أما محاولة إقناعهم بطريقة "العلبة دى فيها فيل"، فهى أقصر طريق إلى فقدان الثقة وترويج الشائعات وزيادة الغضب.
كان الأجدر برئيس الوزراء والوزراء أن يركزوا جهودهم وتصريحاتهم فى البحث عن بدائل وخيارات تخفف من الآثار السلبية لانفلات الأسعار على الفقراء ومحدودى الدخل بدلاً من التغنى بمحاسن رفع الدعم، وأن يكون الخطاب الإعلامى مرتكزًا على خطط ومشروعات عاجلة فيها شحنات من الأمل والتفاؤل والوعود الحقيقية التى يلمسها الناس بأنفسهم، فما زال مطلوبًا من الحكومة برنامج طموح ومشروعات قومية كبيرة تعيد تدفق الدماء فى شرايين الاقتصاد المصرى وتخلق مزيدًا من فرص العمل وتكون عوضًا عن انفلات الأسعار، كرد فعل تلقائى ومعروف لرفع الدعم جزئيًا عن الوقود، فأى مواطن يعرف جيدًا أن رفع سعر البنزين، يصاحبه ارتفاع عشوائى فى أسعار السلع والخدمات، حتى التى ليس لها أدنى علاقة بالبنزين.
لا يجب التهوين أبدًا من حدة الانتقادات التى امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعى، وفيها أسئلة مهمة ومشروعة حول حول خطة الحكومة لتحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية والأخذ من الاغنياء لصالح الفقراء لأن قراراتها الأخيرة تلقى أعباء على ركاب الميكروباص والتكاتك أكثر من ملاك السيارات الفارهة، وفى مصر مبدأ سرطانى اسمه "إزاحة الضرائب"، وفى مقدور المنتجين والأطباء والمهنيين أن يرفعوا أسعارهم ليحافظوا على مكاسبهم ويتحمل فى النهاية الموظفون الغلابة وأصحاب المعاشات الذين لا يمتلكون شيئًا يرفعون أسعاره.
ليست المشكلة فى الإخوان والتيارات السياسية التى ترقص على معاناه الناس فهؤلاء لن يعودوا للمسرح من جديد بعد أن اكتشف الناس حقيقتهم، ولكن فى غالبية المواطنين الذين خرجوا بالملايين فى الدستور والانتخابات الرئاسية وهم الرصيد الحى للنظام السياسى الذى يجب الحفاظ عليه ومن حقهم أن يشعروا بعدالة القرارات وانحيازها لهم، وأن يروا حكومتهم تمد ذراعها القوية لأصحاب المليارات الساخنة، الذين حققوها من تسقيع الأراضى ووتوظيف السلطة لصالح الثروة ولا تبتلع طعم التبرعات الوهمية فى صندوق "تحيا مصر"، فأحدهم - مثلاً- تبرع بنصف دخله مدى الحياة، فكم دخله بالضبط وهو لا يتقاضى إلا راتبًا قليلاً ويحول الباقى لحساب مشروعاته، ولو دققنا فى تصريحات كبار رجال الأعمال سنجد العجب العجاب.
لا يمكن أن أقول عن الدواء المر عسل نحل، ولا يمكن أن أتغزل فى الغلاء وأذكر محاسنه، وفى نفس الوقت يجب أن يعرف الجميع أن بلدهم مثل السفينة التى أوشكت على الغرق، وأنها تحتاج جهودًا مضنية وقاسية لإنقاذها، حتى لا تصبح العراق أو سوريا أو ليبيا، وعلى الحكومة أن تسلحهم بالأمل والمستقبل، وأنها لا تحابى الأغنياء على حساب الفقراء.