إذا تأملت مساحات الدعوة الإسلامية على شاشات القنوات الفضائية هذه الأيام، وجدت أن أغلبها يتصدرها علماء التصوف السنى العلمى، وعلى رأسهم أ. د/ أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، وأ. د/ على جمعة، مفتى الجمهورية السابق، والذى يشغل مساحة كبيرة فى الإعلام، فله أربعة برامج فى الراديو والتليفزيون، أما الشيخ محمد عبدالباعث الكتانى فهو يحتل مساحة لا بأس بها على قناة المحور، أما الشيخ أسامة الأزهرى فله برنامج أسبوعى ثابت على قناة الـ«سى بى سى»، وبرنامج يومى فى رمضان، فضلاً على كتبه الكثيرة وجولاته الكثيرة خارج مصر، أما الحبيب على الجفرى فهو من أقدر الدعاة فى التواصل مع قضايا الشباب، والرد على مشاكلهم وآلامهم وشبهاتهم، وفوق هؤلاء جهود علماء متصوفة كبار، وعلى رأسهم الإمام الأكبر شيخ الأزهر الطيب د/ أحمد الطيب، ويليه فى المرتبة والمكانة الدكتور محمد محمود أبوهاشم، وإن عزف كلاهما عن الإعلام، ونأى بنفسه عنه، ذلك فى الوقت الذى غاب فيه كل دعاة الحركة الإسلامية التى تنتهج السياسة أو تعمل بها أو تتعاطى معها. فهل هذه هى بداية أفول دعاة الإسلام السياسى لصالح دعاة الصوفية السنية العلمية؟
سؤال لابد من طرحه، فقد وقع الصدام العنيف بين الدولة المصرية، ومعظم جماعات الإسلام السياسى المصرية، وعلى رأسها الإخوان، والجماعة الإسلامية، ومعظم السلفيين، وكل التكفيريين، ونتج عن ذلك نتائج كارثية الظاهر منها هو السجون والمعتقلات والمحاكم والتفجيرات والاغتيالات، أما الباطن وهو الأسوأ والأفدح، فهو كراهية كل طرف للآخر، وفقدان الثقة به وشتمه والطعن فيه وتكفيره، وتربص كل طرف بالآخر ليتحين الإيقاع به.
وفى كل مرة يحدث الصدام بين الدولة المصرية، والحركة الإسلامية السياسية يتجه معظم الشباب فى هذه الحركة وخارجها إلى التصوف ليفرغ طاقة التدين بداخله من ناحية، ويأمن السجون والمعتقلات والصدام والكراهية المتبادلة من ناحية أخرى.
وقد حدث ذلك فى الأربعينيات بعد الصدام بين فاروق والإخوان، وتكرر كذلك فى منتصف الخمسينيات بعد صدام الإخوان العنيف مع عبدالناصر، حيث كان تيار التصوف، و«الجمعية الشرعية»، و«الشبان المسلمين» هى التيارات الوحيدة المتاحة أمام الإخوانى وكل متدين.
وأعتقد أن الثلاثة كانت لا تتصادم مع الحكم من ناحية، وتميل إلى التصوف العلمى السنى من ناحية أخرى، على تفصيل معين فى الجمعية الشرعية.
وتكرر ذلك فى السبعينيات، حيث انضمت «التبليغ والدعوة» كرافد من روافد الصوفية بدرجة أو بأخرى، وانضم إليها الكثيرون ممن تركوا جماعة الإخوان، أو أرادوا التدين خارجها.
والصوفية السنية العلمية تتميز بثلاثة أشياء تمكنها من سحب البساط من أى فصيل آخر، هى:
- أن مدرسة التصوف تعد من المدارس الإسلامية الأصيلة التى تمتد جذورها من بعض الصحابة والتابعين، مرورًا بالحسن البصرى، والفضيل بن عياض، وذى النون المصرى، وأبوالحسن الشاذلى، وحتى سعيد النورسى، مرورًا بالمعاصرين أمثال الشيخ عبدالحليم محمود، والشيخ الشعراوى.
- أنها مدرسة الحب لا الكراهية.. التبشير لا التنفير، إذ إن الصوفى بطبيعته وتكوينه لا يكره أحدًا، ولا يصارع أحدًا على شىء.. غير متشائم، ولا ينافس أحدًا لا فى حكم ولا فى سلطة.
- أن كل دعاة التصوف على مر عصور الدولة المصرية أقاموا دعوتهم بالشراكة مع الحكام، ولم يصطدموا بهم، مع استخدام أسلوب الضغط السلمى فى تحقيق بعض مطالب الشريعة، مثلما فعل الشعراوى، وعبدالحليم محمود مع الرئيس السادات، مع التركيز على الدعوة والتربية والإصلاح المتدرج.
عدم الاصطدام مع المجتمع، أو استجلاب كراهية غالبية الشعب، أو تغيير المنكر فى المجتمع بالعنف، وتميزوا باستخدام الأيسر فى الفقه، والتسامح مع مجتمعاتهم فى كل شىء.
إن كل البيوت الصوفية الكبرى تطعم الطعام، وتساعد المكروب، وتعين على نوائب الدهر، ومنها الساحة الرضوانية بأسوان، وساحة الطيب فى الأقصر، وساحة الدكتور محمد محمود أبوهاشم فى الشرقية.. إلخ، وذلك استئناسًا بحديث خديجة المشهور فى وصف النبى «إنك لتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر»، وكل بيت يفعل ذلك تناله المحبة والإمامة فى الدين، والقبول لدى الخلق.
إذن يمكننا القول إن الفرصة الآن أصبحت مواتية تمامًا للصوفية العلمية السنية للقفز على كثير من الأماكن التى احتلتها جماعات الإسلام السياسى فى الفترة الماضية.. لكن الصوفية السنية العلمية تواجهها عقبات كثيرة جدًا أمام هذا الاستخلاف بشكل لا يجعلها بديلاً كاملاً عن هذه الجماعات القوية، ومن هذه العقبات:
أولاً: إن الطرق الصوفية تفتقر إلى الكيان الإدارى الجيد، وتحتاج إلى النظام والترتيب والرؤية الإدارية المتكاملة، فمن مشاكلها المستعصية أنها تظن أن حسن الإدارة ليس من التصوف أو الفقه!
ولعل نظرة سريعة على مساجد المتصوفة، مثل الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوى رضى الله عنهم، وغيرها، تغنى عن كثير كلام عن الفوضى التى تضرب بأطنابها، والصخب والضجيج، وكل ما يخالف التصوف الحقيقى والإسلام النقى، فضلاً على المنكرات والمخالفات والموبقات.
ثانيًا: إن كثيرًا من أتباع التصوف وعوامهم تركوا تزكية القلوب والنفوس التى هى أساس الدين الحنيف من ناحية، ولب التصوف وركنه الأساسى من ناحية أخرى، والذى يعنى تنقية النفس من القبائح والرذائل، وركنوا إلى الدنيا.
ليس هذا فقط، بل إن البعض اتخذ التصوف طريقًا للكسب، وبابًا للشهرة والمكانة، ولم يقدموا سوى صورة مشوهة للتصوف.
ثالثًا: انصراف بعض أتباع التصوف للتدين الشعبى الذى تغذيه خطابات الموالد المختلفة، دونما اهتمام بتحصيل العلوم الشرعية، فأكثر الصوفية يتلقون عن مشايخهم العهد وليس العلم، باستثناء حالات معدودة، مثل العشيرة المحمدية منذ بداية نشأتها على يد المرحوم الشيخ محمد زكى إبراهيم الذى كان عالمًا وفقيهًا وشاعرًا وزاهدًا، ومازال تلاميذه يسيرون على الدرب حتى اليوم، وأيضًا دور مضيفة الشيخ إسماعيل صادق العدوى الذى كان علمًا من أعلام الأزهر والتصوف السنى الصحيح.
رابعًا: عدم تصحيح وتنقية الأخطاء التى امتلأت بها الكتب الصوفية التى تحتوى على كثير من الأخطاء الشرعية.
خامسًا: عدم نزول علماء التصوف إلى التجمعات الشعبوية الصوفية، وعدم الاحتكاك بهم لتعليمهم الدين الصحيح، والاستفادة من طاقاتهم المعطلة، وتقويم اعوجاجهم الفكرى، وتوجيههم إلى الصواب، وعدم مواصلة هذا الدور واستمراره.
والخلاصة أن كثيرًا من أتباع التصوف أصابهم حب الدنيا والجاه والمال، كما أصاب غيرهم من المجتمع، مما أفقد التصوف ميزاته الكبرى التى ميزته عن غيره، ومع ذلك يظل التصوف السنى العلمى هو الأقرب لملء الفراغ الدينى فى مصر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة