يرتكز صانعو غسل الأدمغة إلى الإعلام كوسيلة إلحاح لطمس الحقائق الصحيحة، ويستخدمون لأجل الوصول إلى غرضهم كل الأدوات الإعلامية، وتعد الدراما أهم هذه الأدوات.
عملية تفكيك الوعى وإعادة بنائه بتوجهات معينة، بما فيها الفاسدة، تساهم فيها الدراما، خاصة التاريخية منها، بقصص محبوكة الصنعة، وإبهار التصوير والإخراج.. حدث ذلك مثلًا منذ سنوات مع مسلسل الملك فاروق، حيث قدم المسلسل الملك فاروق بوصفه حاكمًا من عجينة مختلفة غير التى عرفها المصريون عنه، فهو- طبقًا للمسلسل- صاحب الشعبية الطاغية، والغيور على كل حبة تراب فى مصر، وأنه بلا خطيئة تقريبًا، وهكذا أعيد تقديم الملك فاروق بصورة مختلفة عن تلك التى ذكرها المؤرخون عنه، وشاهده عليها المصريون المعاصرون له، وبدلًا من حقيقة أنه كان ملكًا فاسدًا، وأنه كان ألعوبة فى أيدى الاحتلال الإنجليزى، شاهدنا دراما تقول إنه «ملك صالح»، وتعيد صناعة صورته من جديد.
أقول ذلك بمناسبة الأعمال التاريخية التى تعرض حاليًا على الفضائيات، والمتمثلة فى «سرايا عابدين»، و«صديق العمر».
فى مسلسل «سرايا عابدين» يقدم صناعه الخديو إسماعيل بوصفه زير نساء، ولا يشغله فى الدنيا سوى حريم القصر والجوارى.. لم تلتفت المؤلفة مثلًا إلى أن شخصية الخديو إسماعيل مختلف عليها، فهناك من يرى أنه كان صاحب مشروع كبير للنهضة، يحاول من خلاله استكمال ما بدأه جده محمد على باشا، ولهذا يعد حاكمًا عظيمًا بالرغم من أنه جلب الديون على مصر، والتى أدت إلى عزله من الحكم فى النهاية، وليس من المعقول أن يكون رجلًا لديه هذا المشروع يتم تقديمه كما لو كان حاكمًا متفرغًا فقط لحريمه ولنزواته، كما أظهره المسلسل.
فى مسلسل «صديق العمر» نشاهد المشير عبدالحكيم عامر فى صورة مختلفة عن الشائع عنه.. يسعى المسلسل إلى تثبيت صورة جديدة عنه، فبعد اتفاق الروايات والشهادات التاريخية السياسية والعسكرية على أنه كان محدود الكفاءة فى منصبه كوزير للحربية، وأنه بدلًا من تعظيم قدرات الجيش العسكرية فى عهده، اعتمد على الشلة داخله، والولاء الشخصى له، فكانت نكسة 5 يونيو 1967، رغم كل ذلك يتم تقديمه دراميًا بصورة جديدة، تتمثل فى أنه المحرك الرئيسى لجمال عبدالناصر، وأنه صاحب الرؤية الأصوب.
يتحدث «صديق العمر» عن أن كل الأخطاء يتحملها عبدالناصر، لأنه لم يسمع نصيحة عامر.. يتحدث المسلسل عن أن «عامر» هو الذى يأمر «عبدالناصر» بل و«يشخط» فيه، يتحدث عن عبدالناصر الضعيف أمام «عامر»، والعاجز عن مجاراته فى النقاش، لأن «عامر» على حق، يتحدث مثلًا عن أن كل ما حدث فى اليمن لم يكن «عامر» مسؤولًا عنه من قريب أو بعيد، ولم يكن مسؤولًا عن الحالة التى أدت إلى انفصال مصر عن سوريا عام 1961 بوصفه حاكم سوريا.
نحن إذن أمام عملين لا يستندان إلى مراجع تاريخية صحيحة ومنصفة، إنما أمام رؤية شخصية تصرفت وفقًا لهوى خاص ليس له علاقة بالتاريخ الصحيح، وتقديرى أنه لم يتم قراءة مراجع متعددة ومتنوعة من المؤلفين، مما نتج عنه أننا أمام عملية تفكيك متعمد للوعى، تسعى إلى تثبيت صورة عكس الحقيقة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرازق يوسف محمد رشدان
تراجيديا