الجغرافيا الطبيعية أسبق من وجود البشر، أما الجغرافيا السياسية ومن بعدها الاستراتيجية، فهى شبكة العلاقات التى تلتقى فيها علوم الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجى والعلاقات الدولية وعلوم اللغة، بما فيها الآداب وكذلك الفنون الشعبية وغيرها، وليس جديدا أن نسجل أن بلاد الشام بمدلولها الجغرافى الطبيعى ومدلولاتها السياسية الاستراتيجية لا تنفصل عن الأمن الوطنى المصرى بأية درجة، ومن بلاد الشام تأتى فلسطين وبوابتها الجنوبية غزة فى صميم الصميم من ذلك الأمن.
ولقد انصرف اهتمام كثيرين كنت ومازلت واحدا منهم إلى عنصر مهم من عناصر تلك المنظومة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، وهو الاتصال الإثنى السكانى من شمال الجزيرة العربية إلى بادية الشام، ومنها الأردن وإلى فلسطين حتى يتصل بسيناء، ومنها إلى منطقة الجوف من أرض مصر التى هى الأراضى الممتدة من حواف سيناء مخترقة السبخات والبحيرات إلى منطقة الشرقية حتى تخوم القاهرة فى بلبيس! وقد تجلى هذا التواصل فى أسماء القبائل والعشائر والبطون، وتجلى فى المصطلحات اللغوية الواحدة والمتشابهة، وتجلى فى ألوان من الشعر والرقصات «السامر والدحية والعرضة»، كما تجلى فى حرف يدوية وعادات وتقاليد.
كانت فلسطين وستبقى ببقاء الجغرافيا طبيعية وسياسية واستراتيجية، هى البوابة المباشرة لمصر من الشمال الشرقى، ولا يمكن الحديث عن قضية فلسطين ووجود الاحتلال الاستعمارى الاستيطانى العنصرى الصهيونى، إلا باعتبار الأمر قضية مصيرية، تمس وجودنا العضوى وجذورنا الحضارية والثقافية وإرادتنا السياسية.. وقل ما شئت من مقومات الوجود.
وإذا كان الاحتلال الصهيونى والاستعمارى الاستيطانى العنصرى يمثل خطرا، فإن الأخطار الأخرى ومنها تلك الجماعات التى تزعم اتخاذ الدين مرجعية لها، وتفعل ما تفعل ضد الأمن الوطنى المصرى، هى نوع آخر غير الخطر الصهيونى وإن لم تقل عنه فى الدرجة، ولذلك فنحن إزاء حتمية أن نمارس كل مهاراتنا السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وأيضا الثقافية لكى لا نقع فى فخ الخلط بين الخطرين ولا نقع فى مستنقع ضياع الحق العربى الفلسطينى فى الأرض المحتلة من خلال الخلط أيضا بين تلك الجماعات الإرهابية التى استحضرتها الدولة العبرية ذات يوم مضى، وبين الشعب الفلسطينى المقاوم الصامد العظيم.
ومن تحديد الموقف السياسى الاستراتيجى الذى أظنه صحيحا ومرحبا بأى اختلاف حوله، انتقل إلى زاوية أخرى اعتدت أن أنظر من خلالها إلى كل الأحداث الجارية هى الزاوية التاريخية، وأيضا الأسطورية إن وجدت.
لقد بحثت وبسرعة وفى المتاح من المصادر، فوجدت أن غزة عاصمة القطاع الذى يحمل اسمها قديمة أسماها الفرس «هازاتوه» وأسماها العبرانيون «غزة» وسماها العرب «غزة هاشم» لأن فيها مات هاشم بن عبد مناف جد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو راجع بتجارته من الشام، وتعنى غزة باللغة العربية «القوى».. واستمدت غزة أهميتها التاريخية والاستراتيجية من وقوعها على أبرز الطرق التجارية فى العالم القديم، وهى طرق تبدأ جنوبا من عدن وحضر موت إلى بلاد الشام، وكانت غزة القديمة تمثل مساحة تقدر بنحو كيلو متر مربع فوق تلة صغيرة ترتفع حوالى 45 مترا عن سطح البحر. وهناك روايات تاريخية أن العرب الكنعانيين هم من أسسوها قرابة الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد وصفها بونابرت «نابليون» بأنها بوابة آسيا ومدخل أفريقيا، وقد استعنت فى تلك المعلومات بموقعين إلكترونيين أحدهما للكنيسة الأرثوذكسية بغزة وثانيهما لشبكة «زيد» الإلكترونية.
ثم راودنى سؤال حول ماذا تمثله غزة فى الذهنية الإسرائيلية، وهل لها ذكر فى العهد القديم أم لا؟، وكالعادة ذهبت إلى العهد القديم وساعدنى فى ذلك «موقع الأنبا تقلا» ووجدت إشارة إلى سفر عاموس.
يأتى سفر عاموس فى التوراة ليحتل الترتيب رقم 30 إذ يبدأ الكتاب المقدس فى عهده القديم بسفر التكوين ثم الخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، ويشوع، والقضاة، وراعوث، وصموائيل الأول، وصموائيل الثانى، والملوك الأول، والملوك الثانى وأخبار الأيام الثانى، ثم عزرا، نحميا، استير، أيوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الإنشاد، أشعيا، أرميا، مراثى أرميا، حزقيال، دانيال، هوشع، ويوئيل، وعاموس، ثم يأتى من بعده عوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجى، وزكريا، وملاخى.
وبذلك يكون عدد الأسفار 39 سفرا، وجملة إصحاحاته 929 إصحاحا، والطبعة التى اعتمد عليها هى طبعة دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط.
وفى سفر عاموس من العهد القديم «التوراة» تقرأ: «.. فقال إِنَّ الرَّبَّ يُزَمْجِرُ مِنْ صِهْيَوْنَ وَيُعْطِى صَوْتَهُ مِنْ أُورُشَلِيمَ فَتَنُوحُ مَرَاعِى الرُّعَاةِ وَيَيْبَسُ رَأْسُ الْكَرْمَلِ».
وتبدأ الكوارث التى أنزلها الرب بعدة أماكن أو أمم حسب موقع الأنبا تقلا هى:
1 - سوريا «آرام» وكانت أهم خطاياها الكبرياء.
2 - فلسطين وأهم خطاياها تجارة العبيد.
3 - فينيقية «صور» وأهم خطاياها نقض عهد الأخوة.
4 - أدوم وأهم خطاياها الكراهية وسفك الدماء.
5 - بنوعمون وأهم خطاياها القسوة.
6 - بنو مو آب وأهم خطاياها الكراهية.
وفى الإصحاح السادس من سفر عاموس نقرأ: «هكذا قال الرب: من أجل ذنوب غزّة الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه لأنهم سبوا سبيا كاملا لكى يسلّموه إلى أدوم. فأرسل نارا على سور غزّة فتأكل قصورها. واقطع الساكن من أشدود وماسك القضيب من أشقلون وأرد يدى على عقرون فتهلك بقية الفلسطينيين قال السيد الرب»!
وفى الشروح نقرأ أن عاموس النبى كان راعيا للغنم فى بلدة تقوع، وكان أيضا جانى جميز وهو عمل لا يقوم به إلا شديدو الفقر، ولم يذكر عاموس اسم والده لأنه من عائلة فقيرة ومجهول.
وفى الشروح إشارة إلى الذنوب الثلاثة والأربعة أنها أولا التفكير فى الشر «الذنب الأول» وعمل الشر «الذنب الثانى» وعدم التوبة عنه أو الاستمرار فيه «الذنب الثالث» والتعليم به «الذنب الرابع»، فماذا فعلت غزة لكى يتم تأديبها فى العهد القديم؟
يقولون إنها كانت عاصمة فلسطين فى ذلك الحين، وكانت حسب الشروح «خطية فلسطين» فى ذلك الوقت هى استغلالهم بنى يهوذا الهاربين إليهم من وجه «سنحاريب» «ملك آشور»، فيقبضون عليهم ويبيعونهم عبيدا لبنى آدوم ألد أعدائهم. يعنى حسب الشروح أنهم، أى أهل غزة، أرادوا إبادة اسم إسرائيل.. لهذا فإن النار التى ارتدت إليهم إنما لتلتهم قصور المدن الرئيسية: «غزة وأشدود وأشقلون وعقرون».
هذا هو الجذر التوراتى لموقف الصهاينة من غزة، ولذلك عندما تم أسر المستوطنين قبل عدة أسابيع واختفاؤهما اتجهت الأنظار إلى غزة، خاصة أن هناك سابقة أسر الصهيونى شاليط.
وقبل هذا وبعده تبقى القضية الأساسية والعقدة التاريخية للصهاينة، هى الخروج من مصر، وتبقى مصر العدو الذى يجب تقويض وجوده بكل الوسائل ولا ننسى اللعنات التى استنزلت على وطننا، وكان منها موت البكور للبشر وللبهائم وتحول ماء النيل إلى دم.
لا ينبغى أن نخلط بين الخطر الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى العنصرى، وبين خطر جماعات العنف الإرهابى المتأسلم التى نعانى منها الآن، ولا يجب أن نتقاعس عن اتخاذ الطريق الأكثر صحة فى مواجهة الخطرين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة