ذكرنا فى المقال السابق أن الراسخ فى الإسلام وعليه جمهور العلماء، أن السبب الباعث على الجهاد القتالى أو الحرب هو الدفاع عن النفس، ووقف اعتداء الآخرين على المسلمين أو ما يسمى التصدى للحرابة، وأنه لا يوجد فى الشرعية الإسلامية إعلان الحرب أو الاعتداء على الناس لإجبارهم على اعتناق الإسلام أو التمسك بأحكامه، وقد فوجئنا خلال الأيام السابقة بما فعله أوباش تنظيم داعش الإرهابى، حيث خيّر المسيحيون فى الموصل بين اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو الخروج من مدينتهم ومنازلهم بملابسهم من دون أى أمتعة، وتحت تهديد السلاح، كما قال بطريرك الكلدان فى العراق والعالم لويس ساكوا: «يغادر المسيحييون للمرة الأولى فى التاريخ الموصل، مخلفين ورائهم كنائس ومنازل ومحال وحياة»، وقد ادّعى تنظيم داعش الإرهابى البربرى أنه يطبق بذلك أحكام الإسلام، وهو منه براء، بل إن الدين الإسلامى يجرم جميع ما ارتكبه أوباش داعش منذ ظهورهم، وعانى منه الجميع، سواء المسلمين أو المسيحيين فى العراق وسوريا، ويعتبره الإسلام من الحرابة التى يجب مواجهتها بالقوة، وغلظ عقوبة من يتم إلقاء القبض عليه منهم إلى الإعدام والنفى من الأرض، كما فى قوله تعالى من سورة المائدة آية 33: «إنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْي فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، فإذا كان الإسلام لا يقبل ذلك بل ويحرمه فما هى حقيقة الجزية؟
إن حالة الحرابة الموجبة للجهاد القتالى إذا انتهت، ووثق الناس بوقف الاعتداء وصدق التعاون وحسن الجوار، فإن الإسلام يقرر ضرورة التعايش مع الأديان الأخرى وخاصة السماوية المسيحية واليهودية، فى تفاهم وتعاون ووئام، وهو ما ذكر صراحة فى قوله تعالى من سورة الممتحنة آية 8: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، وكما قال فى سورة الحجرات آية 13: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، وفى ظل هذه المبادئ إن علاقة المسلمين بغير المسلمين المسالمين من المسيحيين واليهود وغيرهم لها حالتان اثنتان:
الحالة الأولى: أن يكون كل من المسلمين وغير المسلمين داخل بنيان الدولة، أى أنهم مواطنون فى نفس الدولة، وهنا يكون للجميع حق المواطنة الكاملة بلا أى تميز أو اضطهاد، ويُكفل للجميع حماية كل الحقوق والحريات، وفى مقدماتها الحق فى شغل الوظائف العامة بلا تميز بداية من منصب رئيس الجمهورية وامتداداً إلى غيره من الوظائف، وكذلك حرية العبادة بل ويجب احترام جميع المقدسات والشعائر الدينية لغير المسلمين من المواطنين، ويجب على المسلمين، الحاكم منهم والمحكوم، أن يشاركهم الاحتفال بأعيادهم الدينية، ويقدّم لهم التهنئة، ويجب أن يضمن دستور وقوانين البلاد هذه المواطنة العادلة، وتكون الهوية الجامعة للكل هى الهوية الوطنية بغض النظر عن الهوية الدينية للأكثرية. إن من الأحكام الفقهية المقررة، أنه لا يجوز للمسلمين التعرض لمصالح غير المسلمين ومعايشهم ومآكلهم ومشاربهم التى لا حرج عليهم فى دينهم منها، وإن كانت فى شريعة الإسلام محرمة، فلا يجوز إراقة خمر لغير مسلم أو إتلاف خنزير له، وعلى الذى أخذ شيئاً من ذلك أن يردها إليه، فإن أتلفها يجب على الآخذ تعويض غير المسلم عنها، كما يقرر الفقهاء أن من تعرض من المسلمين بشىء من المحاولة إلى ذلك وجب زجره، فإن عاد وجب تأديبه بما يراه الحاكم من العقوبات التعزيرية، ويجب على الدولة أن تضع قوانين تفصيلية لحماية هذه الحقوق، وقد نص الرسول فى وثيقة المدينة، التى تمثل أول دستور فى أول دولة بأكثرية إسلامية على ما يضمن هذا التعايش المبنى على المواطنة بين المسلمين واليهود، حيث ورد فيها: «إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، وهذه هى الألفاظ التى كانت تعبر عن المواطنة فى هذا الزمان، ولو كانت الألفاظ القانونية والدستورية المعاصرة موجودة فى زمن الرسول لاستخدمها صلى الله عليه وسلم، وفى هذه الحالة يدفع جميع المواطنين الضرائب وغيرها من الرسوم التى تحصلها الدولة طبقاً للقوانين السائدة فيها، وتستخدم حصيلة الضرائب والرسوم لتمويل الخدمات التى تقدمها الدولة للمواطنين بلا تفرقة أو تمييز، ولا يجوز مطالبة أى فئة من الشعب برسوم أو ضرائب إضافية بسبب انتمائهم الدينى، خاصة أن الجميع يتحمل مسؤولية الدفاع عن الدولة من خلال الجيش والشرطة الذى يشارك فيهما جميع المواطنين بغض النظر عن هويتهم الدينية.
الحالة الثانية: أن يكون وجود غير المسلمين فى بلد خاص بهم، سواء كان مجاورا للمسلمين أو غير مجاور لهم، ففى هذه الحالة يكون عقد الذمة مع هؤلاء ما يقرره القانون الدولى، وميثاق الأمم المتحدة بين الدول من الاحترام المتبادل، وعدم التآمر والاعتداء، وعدم التدخل فى الشؤون الداخلية، والمساعدة عند الكوارث والاحتياج، ومثال على هذه الحالة العقد الذى جرى بين الرسول وبين أهل البحرين، وكانوا مجوساً، والعقد الذى جرى بينه صلى الله عليه وسلم وبين أهل نجران وكانوا مسيحيين.
أما بالنسبة لقوله تعالى من سورة التوبة آية 29: «قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» فهذه الآية وغيرها من آيات سورة التوبة تتكلم عن حالة الحرابة، بمعنى أنها تتكلم عن أحكام من يعتدى على المسلمين وينتج عن اعتدائه حالة حرب بينه وبينهم، ولا يمكن فهم أى آية من آيات سورة التوبة بمعزلٍ عما قبلها وما بعدها، فالإلجاء إلى الجزية ونظامها جزاء رتبه الله على حالة الحرابة المذكورة من أول السورة، ومعاذ الله أن يكون مرتباً على عدم الإسلام فمثل هذا الإلجاء بهذا الشكل تترتب شرعيته على أى قصد عدوانى يصدر من أى فئة من الناس حتى ولو كانت فئة مسلمة، فإذا خططت فئة للاعتداء علينا ثم بدأت هى بالاعتداء فإن الحق والمنطق والقانون الدولى يقضيان بمقاتلتهم، ثم بإلجائهم إلى الانضباط الحقيقى بموازين العدل وحسن الجوار واحترام السلم العالمى، ويدخل فى ذلك دفع تعويضات وغرامات للخسائر التى لحقت بنا نتيجة اعتدائهم علينا، أو دفع رسوم لخدمات معينة تقدم لهم خلال فترة يفرض عليهم فيها عقوبات، مثل عدم حمل السلاح أو عدم دخول الجيش، ووقتها تتحمل الدولة ذات الأكثرية الإسلامية مسؤولية الدفاع عنهم مقابل رسوم يدفعونها.
والبعض يرى فى كلمة «الجزية» مهانة، حتى وإن كانت فى ظل هذا الفهم المذكور أعلاه، وفى الحقيقة كلمة «الجزية» لا تدل بوزنها ولا بأصل اشتقاقها على معنى من معانى المهانة أو الاحتقار، ذلك لأن كلمة «الجزية» من الجزاء، وتطلق على المال الذى يؤخذ من إنسان أو دولة كتعويض أو غرامة لاعتدائه على غيره، أو مقابل تحمل مسؤوليته ورعايته وحمايته فى ظروف معينه، وعلى الرغم من أن معناها لا ينطوى على إهانة، فإذا ثبت أنها تؤذى من تأخذ منه معنوياً، فليس ثمة ما يمنع من تسمية هذا المدلول بأى اسمٍ آخر من الأسماء المعاصرة مثل تعويضات أو رسوم حماية أو ضريبة كذا، فقد ثبت فيما رواه الطبرى فى تاريخه أن أناسا من مدينة «تغلب» تضايقوا من كلمة الجزية، وعرضوا الأمر على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فشاور عمر الصحابة وقَبِل أن تحصل منهم باسم الصدقة، وقال الإمام النووى فى روضة الطالبين: وتؤخذ برفق كأخذ الديون، فإذا انتهت حالة الحرابة وأغمد المعتدون أسلحتهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين وتأكدنا من حرصهم على السلم والتعاون الإنسانى، انمحى الردع بكل مظاهره وذيوله وحل محل ذلك قانون المعاملة بالمثل، وهيمن مبدأ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وقامت شرعة الاحترام المتبادل كما ذكرناه أعلاه.
فهذا هو معنى الجزية المذكورة فى الآية ولا علاقة له بما فعله أوباش تنظيم داعش الإرهابى بالمسيحيين المسالمين من أصحاب البلد فى الموصل، لإجبارهم على الدخول فى الإسلام مخالفين بذلك جميع أحكام الإسلام، وفى الحقيقة هؤلاء الهمج داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة لا علاقة لهم بالدين وأحكامه، ويجب محاربتهم كما يحارب الشيطان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة