د. محمد على يوسف

اللى زى الناس يتعب.. أحياناً

الخميس، 31 يوليو 2014 03:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان يظن فى البداية أنه سيتصدر المشهد، كان يعتقد أنه سيملك القوم عملا بقاعدة «الأعور وسط العمى مفتح» وهو ليس بأعور بل هو مبصر تمام الإبصار، إنه الوحيد فى تلك القرية الذى يرى وتعمل عيناه بكفاءة كاملة لا شك أنه سيتزعمهم ويتقدمهم جميعا بتلك المزية لكنه لم يلبث أن اكتشف حقيقة الأمر وأدرك أنه كان واهما، إنهم يريدونه مثلهم بل لن يقبلوه إلا لو كان مثلهم أعمى.. إن طول فترة مباشرتهم للظلام جعلهم يبغضون الضياء ولا يتصورون أن يكون من بينهم من يبصر ذلك النور أو يرى الدنيا بلون آخر خلاف اللون الحالك الذى يغشى مدينتهم الكئيبة.

تحدثنا عن السماوى ولون البحر الأزرق ولون الشفق الأرجوانى؟! ما هذا الكلام العجيب؟، أو منا الأشقر والأسمر والقمحى والأبيض المشرب بحمرة؟! أو تتباين درجات ألوان بشرتنا وشعرنا وتزعم أن ملامحنا أيضا تتفاوت وتختلف سيمانا؟! لقد طاش عقلك يا هذا، إنه اللون الواحد والشكل الواحد والمشهد الواحد، دعك من هذه الخزعبلات وعش مثلنا، وإن كان هذا العضو الذى يتوسط وجهك هو ما يغرس تلك التصورات المضحكة فى عقلك فتزعجنا بها فانزعه إذاً لتحيا بيننا كواحد منا، هكذا طلبوا من الرجل.. لكى يستطيع التعايش معهم، عليه أن يفقأ ذلك العضو الغريب الذى يجعله مختلفا ويجعله يقول أشياءً ويرى أمورا غير تلك التى ألفوها واعتادوا عليها، طلبوا منه أن يفقأ عينيه، ولقد كاد أن يفعل.

الضغط الدائم والاستهجان المتواصل والرفض المستمر لما يقول بسبب ما يراه بذلك العضو الغريب كل ذلك جعله يقدم على تلك الخطوة ليستطيع الاندماج مع سكان تلك القرية التى ساقه القدر إليها ليفاجأ بأن كل سكانها من العميان والقاعدة تقول «اللى زى الناس ما يتعبش» لذا قرر فقء عينيه ليندمج! وهكذا يفعل كثير من الخلق، لكن بطل القصة التى كتبها سير هربرت جورج ويلز فى مطلع القرن الميلادى الماضى تراجع فى آخر لحظة لقد قرر مبصر الرواية الاحتفاظ بعينيه فى اللحظة الأخيرة.. قرر ألا يكون إمعة.. قرر ألا يطمس بصره ليكون مثلهم ويعيش بينهم فى سلام، لقد قرر أن يبصر ويرى ويظل يبصر ويرى حتى لو كان ما يراه مختلفا، وحتى لو جعله ذلك منبوذا مرفوضا لن يبيع بصره ولن يفرط فى بصيرته وللأسف كثير من مبصرى اليوم لم يفعلوا مثله، لقد قرر كثير منهم أن يركعوا للضغط وينحنوا للموجة.

قرروا أن يخوضوا مع الخائضين ويهووا مع الساقطين حتى لو خالف ذلك ما يرونه ويعتقدونه، حتى لو خالف ضمائرهم ومبادئهم إن كان قد بقى لهم شىء منها، هانت عليهم ثوابتهم فسهل عليهم أن يطمسوا النعمة التى أنعم الله عليهم بها نعمة البصر والبصيرة ليكونوا زى الناس «واللى زى الناس ما يتعبش» هكذا يتصور هؤلاء فيرضون بكل شىء وأى شىء فقط ليسايروا الموجة ويذوبوا فى واقعهم حتى لو كان ذلك معناه أن يصيروا إمعات أو حتى عميان ما دام بين العميان إذا فلا مشكلة.

هذا التقليد والاتباع الأعمى كان دوما من أكبر الأسباب فى صد جموع غفيرة من الناس عن طريق الحق حين لا يتصورون أن يرد جديد عليهم ولو كان ذاك الجديد هو الحق الذى لا مرية فيه، لا يتصورون فوات الحق على ما يتوهمونه نبوغا لآبائهم وسادتهم وكبرائهم! إنه التقليد المقيت الذى هو ضد الإدراك الصحيح لطبيعة الحق فالحق حق بذاته لا يحتاج لمن يزكيه أو يزيده بهاءً وسطوعا وهو ليس بمن يدعونه وليس بمن يزعمون أنهم عليه أو يظن بهم ذلك الحق يعرف بذاته وليس بالرجال ولا بالآباء والأجداد ولا بمجرد أن يكون المرء.. زى الناس.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة